تُشكِّل حلب، ومدنٌ سورية أخرى، ركيزة درامية لتنويعات سينمائية مختلفة، تميل غالبيتها إلى النوع الوثائقي، في مقاربة أحوالها ومساراتها، وانفعالات أهلها ومصائرهم. للسوريين غلبة، فهم أبناء المدينة والبلد، وهم أكثر المعنيين بواقع سوري منبثق من حراك مدني شعبي عفوي، تنقلب عليه سلطة دموية، فتُحيل كلّ شيء إلى موت وفراغ وخراب. لبعض العرب اهتمامات، تحرّض على معاينة ومقاربة وقراءة مختلفة، تندرج في سياق التنقيب السينمائي في تلك الأحوال والانفعالات، ومع هؤلاء الناس. غربيّون مهمومون بالحدث السوري، لأسبابٍ خاصّة بهم، أو لرغبة في فهم ما يجري.
صُوَر حلب قاسية، كواقعها المؤلم. أقدار أهلها أقسى، كيومياتهم المجبولة بالقهر والتشريد والتغييب والإقصاء. حرب بشّار الأسد عليها وعلى أبنائها وعلى سورية والسوريين، بصفته الشخصية أو إنابة عن آخرين، إبادة تُصيب شعبًا وبلدًا وعمارة وفضاء. السينما تُرافق بعض هذا. تلتقط لحظةً، فتوثّقها وتحفظها من نسيان تُريد سلطة الأسد ومعلّموه أن يسود، علمًا أنّ هناك أفلامًا تُصنع من "داخل" سورية، فتُشوِّه وتزوِّر حقائق الثورة السورية ومصيرها القاتم، وحقائق ناس الثورة ومصائرهم، بتمويل من السلطة، وبموافقتها (طبعًا) وتسهيل أمور صانعيها.
السينما، الوثائقية والروائية، حاضرة لقولٍ نابع من عمق الواقع ومأساته، ومن وجع الناس وأحلامهم، ومن فعل جُرمي لسلطة لن تتمكّن من إخفاء جريمتها، رغم بطشٍ تمارسه هي وحلفاؤها منذ ثمانية أعوام ونصف العام.
سينمائيون غير سوريين يُشاركون في توثيق "الحدث"، وثائقيًا وروائيًا. بعض العرب يواكب وقائع ما يجري، فيحاول مقاربة صادقة، لكن ثقل الواقع والتخبّطات التي تُصيبه في مقتل يحول دون إنجاز سينمائي باهر، كذاك الذي يصنعه سوريون معنيون مباشرة بما يجري. تجارب مختلفة، عربية وغربية، غير قادرة على بلوغ ما يبلغه سوريون في هذا المجال تحديدًا، رغم صدق النيّة، وصحّة الرغبة. هذا لن يُلغي ارتباك سوريين في مقاربة اللحظة وتفاصيلها وتشعّباتها، فالحرب الأسديّة مستمرّة، والرغبة في مواجهتها عبر السينما مستمرّة أيضًا. وبالتالي، فإنّ هذا لن يُلغي جماليات عربيّة في معاينة الحدث نفسه.
آخر تجربتين سينمائيتين غير سوريتين، تتمثّلان بفيلمين قصيرين هما "حبّ في حلب" (2019) للمغربي هشام العسري (1977)، و"حلب: صمت الحرب" (2018) للإيراني أمير أوسانلو (1986). الأول (15 دقيقة) يعتمد على كلامٍ وصُوَر تمزج الشعريّ بالإنساني والانفعالي في لحظة موت وخراب، داخل مدينة يُراد لها تغييبًا يطاول حضورها وتاريخها. الثاني (30 دقيقة) صامت في مدينةٍ مُدمَّرة، إذْ يكتفي أوسانلو بتصوير بعض هذين الصمت والدمار، موثِّقًا إياهما في متتاليات بصرية من دون تعليق صوتي، ومن دون موسيقى، إذْ إنّ أصواتًا "طبيعية" تصدر من أمكنة مدمَّرة ومهجورة وفارغة، تبدو موسيقى تتلاءم وقوّة الصمت وثقل الخراب.
أمير أوسانلو غير معنيّ بأي إضافات فنية على "حلب: صمت الحرب"، المُشارك في الدورة الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". مُكتفٍ هو بما لديه من صُوَر ملتقطة داخل المدينة، لتوثيق خرابها. الصُوَر ناطقة، فاللغة الصامتة للخراب أصدق من أي قول أو بوح. وعبر الصُوَر تلك، تقول حلب تمزّقاتها وقهرها وقسوة عيشها في الغبار والدم المتسلّلين إلى مسام جسدها وروحها. كثرة الخراب دليلٌ على وحشية قاتل، وإشارة إلى غياب مدينة. القاتل مستمرٌّ في تغييب المدينة، والمدينة تكافح كي تعثر على حياتها في خرابها، أو كي تُنظّف انبعاثها من غبار الموت. لا إضافة واحدة تستطيع أنْ تمنح "مضمون" الفيلم القصير هذا شيئًا، لا تعليق صوتيًا ولا موسيقى تصويرية ولا كتابة أو صوتَ راوٍ. هذا أساسيّ للغاية. هذا نواة النص السينمائي، ومسارات الحكاية، ومصائر المدينة وناسها. لا وجوه ولا ملامح ولا أناسَ ولا حيوانات. الخراب ولا شيء إلّا الخراب، وصوت ريح أو اهتزاز بعض حديدٍ صدئ فقط. جدران ومحطّات سكك حديدية وطرقات ومبانٍ وفضاءات وفراغ. الإيقاع هادئ، فالهدف كامنٌ في إظهار محتويات اللقطات وما وراء المحتويات تلك. الهدوء سمة تصوير وتوليف، وتحريض على التأمّل بالفظاعة المرتكَبَة.
"حبّ في حلب" (معروضٌ لوقتٍ على صفحة الـ"فيسبوك" الخاصّة بالمخرج، كما على "يوتيوب") مختلفٌ تمامًا، رغم ميله البصري إلى شعرية اللغة والألوان والكلام والانفعال. الخراب مبطّن، فالعشق يتبوّأ واجهة المشهد، من دون أن يُحوِّل النصّ إلى رومانسية ساذجة. شابّة تتوجّه إلى حبيب، وكاميرا تصوير فوتوغرافي، وجولات بين خراب وأنقاض وغبار. المخرج المغربيّ يسعى إلى كشف ما وراء اللغة الصامتة للصورة، فيُحمّلها ثقلاً إنسانيًا وانفعاليًا وتأمّليًا، عبر كلمات شفّافة وقليلة، تختزل إحساسًا، وتبوح بنظرة.
التكثيف الزمني والدرامي والفني أساسي في الفيلمين. هذا يختلف عن أفلام وثائقية، يذهب صانعوها إلى قلب المدينة وروحها، كي يوثّقوا، جماليًا، أحوالها و"انقلابات الأقدار" فيها وعليها. هذا منسحبٌ أيضًا على أفلامٍ روائية ووثائقية، طويلة وقصيرة، تتناول حلب ومدنًا سورية أخرى أيضًا، وأحوال الناس وانفعالاتهم ومشاغلهم. الحرب الأسديّة على سورية والسوريين محتاجة إلى توثيقٍ بصري، رغم عنفها وبشاعتها وقذارة صانعها، بل بسبب هذا كلّه. أبناء البلد يُدركون كيفية التقاط اللحظة. آخرون غير سوريين يُريدون قولاً، وبعض القول مرتبط بتورّط ـ إنساني وأخلاقي أساسًا، وسينمائي أيضًا وقبلاً ربما ـ في أحوال سورية والسوريين. الفيلم القصير تجربة تمزج السينمائيّ بالفني والتأمّلي، وتضع الحدث في واجهة التشريح البصري.
اشتغال المغربيّ هشام العسري والإيراني أمير أوسانلو منسجمٌ وتلك الرغبة غير السورية في مقاربة الحدث السوري. الرؤية من الخارج تُتيح لصاحبها، أو هكذا يُفترض بها، فرصة تمعّن أعمق. لكن سوريين عديدين يُتقنون توغّلاً في حدثٍ يمسّهم ويمسّ انتماءهم، كما يمسّ هويتهم وانفعالاتهم، فيُنجزون أفلامًا مرتبطة بما يجري، أثناء حدوثه، فتُصبح سينماهم مزيجًا بين توثيق لحظة وجريمة أسدية، واشتغال سينمائيّ متنوّع.
اللغتان مختلفتان. لكن الجوهر متشابه. والجوهر، بعمقه السينمائيّ، يعكس جوانب من أحوال الموت اليومي، ومن انفعالات أناسٍ مُقيمين في الموت اليومي، ويُصارعون من أجل حياة وَغَدٍ. فالحبّ، في فيلم هشام العسري، يكاد يكون أقوى من فعل الجريمة، أو ربما يوحي بأنّه أقوى من الفعل؛ والصمت، في فيلم أمير أوسانلو، يُبيِّن حجم الكارثة من دون إضافات بصرية.
مع الفيلمين، تُخاض تجربة التوغّل في الألم والتمزّق، عبر صُوَر تعكس مسام روحٍ معطوبة رغم تمكّنها، بشكلٍ أو بآخر، من مواجهة التحدّي الأخطر عليها. لغة سينمائية صافية، بمفرداتها كلّها (كتابة وتصويرًا ومونتاجًا وإضاءة في الفيلمين، وتمثيلاً في "حبّ في حلب")، "تورِّط" المُشاهِد في تأمّلات سينمائية في معاني العيش والفراق والشقاء.