فيلم ميفيستو.. هل كان هوفغن رجلًا شريرًا؟

23 يونيو 2017
(من فيلم ميفيستو)
+ الخط -


ظهر فيلم "mephisto" لمخرجه الهنغاري إستفان سابو في عام (1981) كجزء من الموجة الأولى للأفلام الناطقة بالألمانية التي تتناول الحقبة النازيّة. ونال جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي لعام (1982)، وهي الجائزة التي لم ينلها أي فيلم هنغاري آخر حتى عام (2016) مع فيلم "ابن شاؤول".

يستند ميفيستو إلى رواية حملت العنوان ذاته، كتبها الألماني كلاوس مان في منفاه. ومن المرجّح أن مان، رغم نفيه لهذا الأمر، اقتبس قصّة روايته عن حياة الممثل الألماني الشهير غوستاف غروندجنز المعروف بـ "فاوست هتلر"، والذي كان مقرّبًا إلى كاتب الرواية قبل أن يقرّر الوقوف إلى جانب النازيّة في ألمانيا.

يصوّر الفيلم قصّة ممثل ألماني يدعى هندريك هوفغن (كلاوس ماريا براندور) يعمل كممثل مسرحي في مدينة هامبورغ، لكنه يقرّر الاتجاه الى برلين خلال فترة صعود النازيين إلى الحكم، عازمًا أن يوسّع شهرته الفنية. وبعد وصول النازيين إلى السلطة، يرعى الجنرال الفاشي (رولف هوب) الممثل الموهوب، بعد أن رآه يلعب دور ميفيستو على المسرح، فيقدّم له الكثير من العطايا التي لا يتردّد الممثل في أخذها، إلا أن ثمنها كان الامتثال للنظام الجديد.

يؤدّي هوفغن خلال الفيلم دور ميفيستو على المسرح مرّتين، الأولى حدثت خلال المرحلة الأخيرة من جمهورية فايمر، وفيها يظهر ميفيستو محرّضًا لفاوست على عيش الحياة لأقصاها. الأمر الذي يعكس الشعور العام الذي ساد ألمانيا في تلك الفترة، فتصاعد الأخطار السياسيّة و الإقتصاديّة كان محركًا للإحساس بضيق الوقت واقتراب الهاوية. أمّا المرة الثانية، فكانت خلال العهد النازي، وهنا يظهر ميفيستو التخريبي، الأكثر شرًا وضراوة من سابقه، الأمر الذي يلقى إعجاب الجنرال النازي الذي سيرعى هوفغن بعد هذه الحادثة.

وبهذا يعقد بطلنا، مع قبوله شروط النظام النازي، صفقة مع الشيطان يبيع فيها روحه. ورغم ذلك، نجد هوفغن على المسرح في دور ميفيستو، وليس فاوست. إنه الدور الذي "خُلق ليؤديه" على حد تعبير إحدى شخصيات الفيلم. ولكن ما الذي يحاول الفيلم قوله عبر هذا؟

إن انتقال الممثّل من لعب دور المخدوع إلى لعب دور المخادع، إضافة إلى أدائه الدور في مرحلتين زمنيتين مختلفتين، يطرح تساؤلات عدة حول طبيعة الشخصية نفسها. يبدو فعلًا أن هوفغن، على حد قوله، كان قد "حضّر لهذا الدور طوال حياته". إن استعدادًا ما لدى الممثل، مكّنه من عقد هذه الصفقة، وكأن بذرة فاسدة قد وجدت فيه أساسًا، والنازية لم تكن سوى تربة خصبة منحت هذه البذرة القدرة على الإنتاج.

لقد اجتهد الفيلم في جعل الظروف الشخصية جزءًا لا يتجزأ عن الظروف التاريخيّة التي حكمت الممثل ودفعته إلى فعل الشر، فذكريات الطفولة التي تراود هوفغن، إسكات المدرس له عند غنائه طبقة أعلى من أصدقائه في الكورال المدرسي، كبحت في نفسه صفة المخالفة، وسرعان ما تلاشى صوته "الملائكي"، ليتم استبداله بآخر شيطاني. لكن هل كان هوفغن فعلًا رجلًا شريرًا؟

ترى الفيلسوفة حنا آرنت أن أعظم الشرور في العالم، تلك التي يرتكبها أشخاص نكرات، دون أي قناعة أو غاية شيطانية، ما يجعل شرهم تافهًا لعدم أصالته. إن هوفغن، رغم فساده الشديد، لم يكن شريرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو رجل متقّلب، لا هوية فكرية له، يغير لون جلده دون جهد يُذكر. ظروفه التاريخيّة هي هويته الوحيدة، كونه ألمانيا أولًا، يحتاج إلى لغته الألمانية من أجل أن يستمر في عمله.

وكونه ألمانيا وُجد في ظل صعود النازيّة ثانيًا، كلها شروط تاريخيّة لا إرادة له فيها، تُشكل وعيه وضميره وتطلب منه القدرة على التكيف مع أي نظام يحكمه. نستطيع أن نرى هذه الهوية الديناميّة واضحة مع تبدل موقف هوفغن، يساري الأصل، إلى قومي متعصب يقف إلى جانب الثقافة الألمانية الخالصة التي هللت لها النازيّة، ويدعو إلى مسرح كلي قادر على حشد الجمهور، وهي الكلمات ذاتها التي استخدمها في وصف المسرح الثوري الذي حلم به قبل وصول النازيين إلى السلطة.

مع إعداد هوفغن لمسرحية هاملت في نهاية الفيلم، تظهر تشوهات السلطة على الممثل في أوضح صورة لها، فعندما يشرح للممثلين دور هاملت في المسرحية، يصفه بمنقذ الشمال، والفارس الوحيد المحافظ على الدم و العرق النقي. وفي باريس، حيث يلتقي بزوجته السابقة يتساءل في نفسه: "الحرية؟ من أجل ماذا؟" ثم ينزل إلى المترو عائدًا إلى ألمانيا في صورة ترمز لعودته إلى باطن الأرض المظلم. إن الحرية لا معنى لها لرجل مثل هوفغن صار القناع ملتحمًا مع وجهه: "وجهي ليس لي. واسمي هو ليس اسمي، لأنني ممثل".

إن التخفّي خلف الأقنعة هو ملجأه الوحيد من نفسه، ومن الشعور العميق بالعار الذي يعتريه إلى درجة التخلي عن اسمه الحقيقي "هاينز"، فهو لا يمثل على خشبة المسرح فقط بل في الحياة أيضًا، لذا نلحظ أن كلمة "ممثل" تُوّجه إلى هوفغن مرتين خلال الفيلم للدلالة على سوءة فيه، إحداها من قبل الجنرال النازي نفسه الذي يدرك جيدًا أن انصياع هوفغن للسلطة النازيّة، ماهو إلا دور آخر يلعبه.

إن الفيلم لم يكتف بدراسة أثر السلطة على الفن فحسب، بل إنه يُبرز أيضًا دور الفن في دعم السلطة و إلهامها حتى، إذ يثني الجنرال على عنصر المفاجأة الذي يتمتع به الممثلون، مضيفًا وجوب تعلمه هذا من هوفغن، الأمر الذي يُذكرنا، بشي لا يخلو من السخرية، بأسلوب المباغتة الأشهر في التكتيكات الحربيّة. إن مثل هذه التعليقات الساخرة وضعها صنّاع الفيلم في مشاهد عدة، كالمشهد الذي يطلب فيه الجنرال من هوفغن التوقيع على ورقة حضور في المعرض النحتي، كإشارة إلى عقده الصفقة كما في الأسطورة الفاوستية، وفي حفل ميلاد الجنرال، يلقي هوفغن خطبة يشرح فيها كيف أن الفنانين دون رعاة هم كالطيور متكسّرة الأجنحة، فيما تنتقل الكاميرا لتصور نسر الرايخ الظاهر أسفل العلم النازي.

في المشهد الأخير، يقود الجنرال النازي الممثلَ إلى استاد برلين الشهير الذي كان قد بني حديثًا حينها. ويطلب منه السير بعيدًا بينما تُسلط عليه أضواء شديدة تكاد تعميه. هوفغن الذي يتعثّر في مشيته يتمتم الكلمات التالية: "ما الذي يريدوه مني؟ في النهاية أنا ممثل فحسب". لقد عاد هوفغن إلى النقطة التي ابتدأ منها، وأصبح غريبًا مرّة أخرى عن النظام الذي سعى إلى تسخيره. إن نهاية الفيلم لا تطرح حلولًا أو إجابات معينة، بل إنها تترك هذه المهمّة على عاتق الجمهور الذي سيدرك فورًا أن فيلم "ميفيستو" لم يكن عن ماضي ألمانيا فحسب، بل إنه يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصل إلى تناول صلب الثقافة الألمانيّة. إن شخصية هوفغن تؤكّد أن قدرة الإنسان على أن يكون ملاكًا أو شيطانًا أو كليهما، هو أمر ليس خارجا عن الكينونة البشرية.

المساهمون