لا شيءَ أدْعى للحيرة من أن يختار المرء من بين قصائده، لأن القصيدة إن كانت جيدة، تقطعُ حبلَها السُّرِّيَّ وتعيشُ حياتَها الخاصة طالتْ أمْ قَصُرَتْ. أمّا القصائد السيئة فليست أكثر من رمادٍ متطاير.
لدينا في اللغة الهندية قصائد مستقلّة تماماً يمكننا تقدير قيمتِها دون أخذ مؤلّفها في عين الاعتبار. هناك على سبيل المثال قصيدة "في الذاكرة" وقصيدة "امرأة تقطّع الصخور" من تأليف الشاعر العظيم نيرالا، ولكن كلا القصيدتين حظيتا بحياة ثقافية مستقلة ومقروئية مختلفة بعد أن تحرّرَتا من كاتِبِهِما.
لا يحالفُ الحظُّ جميعَ القصائدِ لتُحَقّقَ مثل هذه الأهمية، ولكن الحقيقة أن الشاعر يفقدُ سيطَرَتَه على قصائده بمرور الوقت، ولا تعدو كلّ محاولة يبذلها لامتلاك هذه القصائد كونَها مجرّدَ خطيئة.
عندما جئت إلى دلهي منذ حوالي 45 عاماً محمّلاً ببعض قصائدي، كانت رحلتي عبارة عن هجرة من مكان هادئ في حضن الطبيعة، إلى عالم مترامي الأطراف مضطرمٌ بالنشاط. اكتشفت مع أصدقائي مدينة أخرى داخل حنايا هذه المدينة وعشنا في زاوية مظلمة في الضواحي. تقبّلني مجتمعُ الشعر بسهولة، على الرغم من الصعوبات التي كان عليّ مواجهتها لتغطية نفقاتي، ربما لأن قصائد مبتدئ مثلي مشبعةٌ بتجارب لم يكن العالم الهندي المعاصر على دراية بها.
نبضَتْ دلهي ذلك الزمان بالقلق والتوتّر الفكري: خيبة الأمل بالحلم الكبير لعصر نهرو، ووجهات نظر رام مانوهار لوهيا المناهضة للمؤسسة، جيل البيت Beat Generation الشعري الأمريكي، ورحلة آلن غينسبيرغ إلى الهند، وفرقة البيتلز، ورحيل الشاعر الهندي موكتيبود والمكانة المحورية التي اكتسبها شعره، وشعار Mera naam tera naam Vietnam (اسمي واسمك فيتنام) والذي يعارض بشدّة الهجوم الأمريكي على فيتنام، والروح الثورية لثورة الفلّاحين عام 1967، وحركة هانغري جينيريشن البنغالية Bengal’s Hungry generation الأدبية، وحركة نيكيد رايتيرز Naked Writers’ Association في تيلوجو، وحركة داليت بانثر Dalit Panther في الشعر الماراثي، حيث اندمجت كل هذه الصور لتشكل خلفية تغيير وشيك.
كانت الموجات الفكرية في تلك الفترة شديدة التنوّع والاختلاف، وقد لَمَسَتْ كلّ أفراد جيلي بطريقة أو بأخرى. ظهر الكثير من الشعر الجيّد الذي سجّل موجات وحماسة تلك الأيام الرائعة، وانحاز في الغالب إلى القوى المعارضة لهياكل السلطة.
كانت هذه الحياة مليئة بالتوتر بين الاشتياق والحنين إلى مسقط الرأس وصعوبات التصالح مع مكان اللجوء.
يبقى هذا الحنين والضياع الناتج عن كل هذه العوامل الطبيعية والبشرية بكل مفارقاتها، والتي تمثّل إحدى السمات الأساسية لجيل ما بعد الاستقلال، والمواجهات مع الحقائق الغريبة، موضوعات متكرّرة في كتاباتي الشعرية وفي إبداعات جيلي أيضاً.
أرى تعايشاً غريباً بين الريف والمدينة، عندما أسترجعُ مجموعتي الشعرية الأولى "فانوس على الجبل"، مع ذكريات من هجر سماء صافية في التلال التي تحدّرتُ منها ودخل تضاريسَ مجهولة لا تزال بِكْراً حتى اليوم. كانت الذاكرة بمثابة خيالٍ يُغني محاولاتي الشعرية، لتصبح هذه الخرسانة المتينة القاعدة الأساسية لكل المعاني المجردة والصور والمواضيع التي أكتب عنها.
كان جيلي محظوظاً أيضاً لأن العديد من الشعراء الذين لعبوا دوراً حيوياً في تشكيل الشعر الهندي الحديث وضميره، فعّالين ونشيطين للغاية في تلك الفترة. ظهر شعراء مثل شامشير بهادور سينغ وناغارجون وتريلوشان وأجنيا وكيدارناث أغراوال، ومن بعدهم راغوفير ساهاي وكونوار نارين وسارفيشوار ديال ساكسينا ودوميل على سبيل المثال لا الحصر.
أُعيد في نفس الفترة تقريباً اكتشاف القصيدة الطويلة للشاعر مكتيبود "في الظلام" كقصيدة خلّاقة تصوّر الكابوس الاجتماعي والثقافي والسياسي في مرحلة ما بعد الاستقلال. أصبحتْ هذه القصيدة نصّاً مجازياً وعلامة فارقة في عصرنا. عرّفنا شامشير إلى جانب مكتيبود على غوامض الشعر وأبعاده الداخلية، في حين تعلّمنا من ناغارجون وراجوفير ساهاي كيفية مراقبة وتشريح المفارقات البشرية التي تعج بها ديمقراطيتنا في الأماكن الريفية والحضرية.
اعتبرَ المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي أن "تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة" يمثّلان الخاصّية المميزة للمفكّر العضوي كما سماه. كان شعري يهدف أيضاً إلى التوازن بين هذا اليأس والأمل، لذلك غمرتُ شعري بالتفاؤل على الرغم من نبرتِه اليائسة.
استمدّ شعري قوّته أحياناً من التجارب المتشائمة التي صادفتُها في مجتمعٍ يَغُصُّ بانعدام المساواة والظلم والظروف غير الإنسانية. أردتُ أن أعكس الزمن المعاصر وأن أتجاوزه أيضاً لخلق عالمٍ أفضل وأكثر إنسانيّةً، عالمٍ مضادّ قد يكون أكثر قابليّة للعيش فيه. قد لا يكون مثل هذا العالم الخالي من القمع والهمجية العالمية والهيمنة ممكناً، ولكن الشعر يسعى دائماً لتحقيق بعض هذه الأهداف.
أدركت ُعندما شرعتُ في اختيار قصائد من مجموعاتي الخمس المنشورة حتى اليوم مدى غربتي وابتعادي عنها. وتذكّرت اقتباساً مشهوراً من مسرحية أنطون تشيخوف "الأخوات الثلاث": "لنفرض أنه كان في إمكان الواحد منا أن يستخدم حياته الذاهبة كمسودة لحياة أخرى جديدة؟ ما الذي سيحدث إذن؟". قلت لنفسي ماذا لو أخذتُ قصائدي القديمة على أنها المسودة، لأنقّحها وأمنحَها حياةً أخرى. ولكن هل أنا قادرٌ على بعثِها من جديد؟ نعلم جميعاً أنه لا شيء يعود مجدداً ولا شيء يحدث مرتين.
أتساءلُ أحياناً عن دور الشعر في حياة المجتمع. هل ينقذُ الشعر أي شيء كان؟ وما فائدته للبشرية؟ قال الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسي، في إشارة إلى الحاجة إلى الشعر، إن تبرعم الزّهورُ والتماع النجوم يعني ببساطة أن شخصاً ما بحاجة إليها. قد لا يكون تأثير الشعر، أعني تأثيره الإنساني، مرئياً أو ملموساً بشكل مباشر، ولكن بعض الأحداث في ولاية غوجارات غيّرتْ رأيي تماماً.
قرّرتِ الفتاة تينا نيكا ذات البشرة الداكنة من منطقة القبائل أن تنتحر بسبب حالة الإحباط التي تعانيها، ولكنها تراجعت عن هذه الفكرة بعد قراءة إحدى قصائدي. لم يتمكّن والدها من تزويجها بسبب ملامحِها ولون بشرتِها. كانت تدرسُ الصف العاشر على يدي مدرّسٍ خصوصي، وتضمّن كتاب نصوص اللغة الهندية إحدى قصائدي وهي "فانوس على الجبل".
وجدتْ هذه الصفحة مفتوحةً أمامها بالصدفة، ولا بد أنها فكّرت في إلقاء نظرة على هذا الفانوس الغريب قبل أن تُنهي حياتًها. تحوّلتْ هذه القصيدة فجأة إلى اليد التي انتشلَتْها من الطوفان. تمثّل فكرة "الخلاص" واحدةً من أكبر مشاغل الشعر المعاصر. وكما أبلغتني طالبة مسرح من تشهاتيسجاره أنها أدّت إحدى قصائدي (قصيدة "اللمسة") في امتحان القبول عندما تقدّمت لأحد معاهد التمثيل المعروفة، وتمَّ قُبولها. تؤكّد مثل هذه الحوادث الصغيرة إيمان المرء بالدور الصامت الذي يلعبه الشعر في حياة البشر في أوقات الحزن ولحظات الإحباط والظلم.
* Manglesh Dabral أحد أبرز شعراء الهند اليوم، من مواليد عام 1948، في قرية بمنطقة الهيمالايا في الهند. يكتب باللغة الهندية وله - إلى جانب مجموعاته الشعرية العديدة - كتبٌ في النقد الأدبي والثقافي. عمل محرّراً أدبياً في العديد من المجلات والصحف الهندية
** ترجمة: عماد الأحمد