في التنظير للهزل

20 يوليو 2015

محمود السعدني.. الكاتب الساخر

+ الخط -
لا أغضب حين أجد من يسألني شفاهة أو كتابة: عندما كتبت كذا أو كذا، هل كنت جاداً أم كنت تسخر؟ فقد رأيت أساتذة لي، أشد مني فصاحة وأبرع مني حرفة، وهم يصادفون من يسألهم ذلك السؤال المستفز، وكما أنني لا أمتلك فصاحتهم ولا براعتهم، فأنا لا أمتلك أيضاً ما كانوا يمتلكونه من جرأة في الرد. ولذلك، أكتفي عادة بالرد بعبارة "حضرتك شايف إيه؟". وعادة يكون رد من أقول له ذلك: "إنت بتهزر دلوقتي ولا بتتكلم جد؟". وعندها أقول له من جديد: "حضرتك شايف إيه؟"، ليتركني السائل عادة، ويمشي وهو يغمغم بألفاظ، لا أجزم أنها غير لائقة. لكن، أجزم أنها تنمّ عن الغضب والاحتقار. 
في حالات كهذه، من السهل أن تتهم الكاتب، لأنه لم يوضح قصده للقارئ جيداً، لكنني أفضل تبرئة نفسي، لأتهم مناهج التعليم في بلادنا، لأنها على مدى عقود عديدة، فعلت الفاحشة في قدرة الناس على التذوّق، حتى أصبحنا نعاني من تصحّر الخيال، في شعب قالوا لنا إنه ابتكر الخيال، وبعد أن كانت خفة الظل أمراً يرفع من قيمة الإنسان لدينا، صارت الجهامة والتناكة دليلاً على الأهمية بيننا، وصار مما يرفع ذكر الإنسان وصفك له بأنه "جد ومالوش في الهزار والمسخرة"، وأصبح مألوفاً أن نطلق لقب (مفكر)، على من تستحيل قراءة مقالاتهم من فرط غتاتتها وثقل ظلها، مع أن عدداً من أهم مفكري العالم اكتسبوا مكانتهم من براعتهم في توصيل أفكارهم للناس بمهارة ورشاقة.
"هل أنا الآن جاد أم أسخر؟". من حقك أن تسأل ذلك السؤال كلما شئت، لكن إجابتي على سؤالك ستتوقف على مفهومك للجد والهزل، وهو أمر ليس بالهين لعلمك، فقد كتب فيه الجاحظ، كاتبنا العظيم، رسالة علمية بديعة عنوانها "الهزل والجد"، أتمنى أن تسنح لك الفرصة لقراءتها، قبل أعوام، ذهبت بمجلد يحتوي رسالة الجاحظ تلك، إلى تحقيق أمام النيابة، بسبب مقال ساخر كتبته بحق أحد السياسيين، لكنني في آخر لحظة، تراجعت عن فكرة تقديم الكتاب إلى المحقق، لأنني اكتشفت وأنا "أفرّ" المجلد في انتظار بدء التحقيق، أنني كتبت على هوامشه ما يعاقب عليه القانون، فعلاً وفوراً، فاكتفيت بأن أقدم للمحقق كتاباً لأستاذ الصحافة، الدكتور عبد اللطيف حمزة، يدرس فيه فن الهجاء، بالإضافة إلى مجموعة من كتب عمنا محمود السعدني، والذي كان يعاني يومها من مرض يمنعه من حضور التحقيق، وإلا لكنت جرؤت على استدعائه، لعل شهادته عن أساليب الكتابة الساخرة تنقذني من حبس كنت أخشاه.
يومها، استبد بي الحماس، وأنا أرد على أسئلة النيابة، وفي معرض الإجابة على أحد الأسئلة التي تبدأ بعبارة "وماذا كنت تقصد بقولك حين كتبت كذا.."، قلت إنني "أتمنى أن يقوم أحد أساتذة الصحافة في كليات وأقسام الإعلام، والتي انتشرت في طول البلاد وعرضها، بعمل دراسة علمية عن فن الكتابة الساخرة وأدواته وتطبيقاته، مقدماً نماذج لذلك من الصحافة المصرية التي تملك تاريخاً حافلاً فيه، أو في صحافة الدول المتقدمة، والتي منحت لفن السخرية، حصانة خاصة جعلته يزدهر في أمان، ويصبح واحداً من أبرز فنون الكتابة، والتي يدرك المجتمع أهميتها، وضرورتها للحرية التي لا يتحقق التقدم بغيرها". توقفت عن شرح فكرتي، بعد أن وجدت كاتب التحقيق ينظر إلى رئيس النيابة نظرة تساؤل، معناها "أكتب الكلام ده سيادتك؟"، فنظر رئيس النيابة إليه نظرة تحثه على تجاهل كلامي، ثم قال لي بحسم: "الكلام ده مالوش دعوة بنص التحقيق.. بس ممكن تكتبه في مقال لو تحب.. سين ماذا كنت تقصد بقولك..".
مرت سنين على تلك الواقعة، ومع ذلك، لم أكتب تلك الفكرة باستفاضة، في مقال أوجهه لباحثي الإعلام، ربما لأن الشيطان وسوس لي أن أطمع فيها لنفسي، ثم كنت كلما جاءتني قضية تأخذني إلى محكمة، أو بلاغ يستحضرني إلى نيابة، أقول لنفسي: ألم يكن مفيداً ربما، لو كانت دراسة علمية عن الكتابة الساخرة موجودة معي الآن؟، لذلك قررت أخيراً أن أعمل بنصيحة رئيس النيابة، وها أنا ذا أكتب الفكرة على عجالة، على أمل أن يعجب بها أحد باحثي كليات الإعلام البارعين، ويشرع في تحويلها إلى دراسة علمية، وكل ما أطمعه أن يهديني تلك الدراسة، بعد انتهائه منها، لا أقصد أن يكتب إهداء لي في مقدمة دراسته، بل أطمع فقط أن يهديني أكثر من نسخة منها، لزوم النيابات والمحاكم، والإجابة على سؤال "إنت كنت بتتكلم جد ولا بتهزر؟".

(فصل من كتابي "البهاريز" يصدر قريباً)



605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.