03 نوفمبر 2019
في الطريق نحو لاهوت تحرير إسلامي... علي شريعتي نموذجاً
عند الحديث عن لاهوت التحرير، لا بد من الحديث عن أصل هذه الحركة الدينية الاجتماعية، فقد برز لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية في منتصف القرن العشرين، وكانت أبرز دعاته مجموعة من اللاهوتيين، أبرزهم: (ليوناردو بوف من البرازيل، وغوستاف غوتياريز من بيرو، وأورلاندو كوستاس من بورتوريكو، ورينيه باديلا من الأكوادور، وصموئيل إسكوبار من البيرو.. إلخ)..
ولاهوت التحرير كان يقوم على المزج بين اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية والاقتصادية للماركسية، وكان يدعو إلى العدالة الاجتماعية، والتحرر من الإمبريالية والاستعمار.. وقد كان صوت الشعوب المقهورة والمضطهدة في العالم.
ويبدو أن العالم العربي والإسلامي كذلك تأثر بأفكار لاهوت التحرير، فحاول العديد من المفكرين الإسلاميين المزج بين الدين الإسلامي والأفكار الماركسية، ومن أبرز هؤلاء المفكرين: علي شريعتي في إيران، وحسن حنفي في مصر.. إلخ، ويمكن اعتبار تجربة علي شريعتي من أهم التجارب التي نجحت في المزج بين الإسلام والماركسية، وكانت أفكاره المحرك الإيديولوجي للثورة الإسلامية في إيران، فهو يعتبر المخزن الإيديولوجي لثورة الفقيه، والمطلع على كتابته يلمس تلك اللغة الماركسية الثورية، فهو كان دائما يدعو إلى الثورة على حكم الشاه السلطوي..
وأتذكر أني قرأت له في أحد الأيام كتابا بعنوان "الدين ضد الدين". في هذا الكتاب تحس أنك تقرأ لمفكر ماركسي متمرس، فقد استعمل مجموعة من الأدوات والمفاهيم الماركسية في تحليله للعديد من القضايا.
بالإضافة إلى علي شريعتي، أثارت انتباهي تجربة مالكوم إكس، التي يمكن اعتبارها من أهم تجارب لاهوت التحرير الإسلامي، فقد استطاع مالكوم أن يدافع عن حقوق السود في أميركا أيام التمييز العنصري، واعتمد على الدين لكي يحرك الجماهير للمطالبة بحقوقهم الأساسية: في التعليم والصحة والمشاركة السياسية.. وبفضله هو ومارتن لوثر كينغ حصل السود على حقوقهم، خصوصا الحق في الانتخاب سنة 1966، بعد سنة من اغتياله على يد أتباع إلايجا محمد.
وعلى الرغم من الحياة القصيرة التي عاشها علي شريعتي (44 عاما)، إلا أن إنتاجه الفكري وحياته النضالية تجعله من أهم المفكرين في تاريخ إيران الحديث، وبالتحديد في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان شريعتي خلالها الشخصية المهيمنة على المشهد الفكري الإيراني. ويرتبط اسم شريعتي في الذاكرة الجمعية للإيرانيين بالثورة الإيرانية (ثورة الفقيه) التي حدثت سنة 1979، والتي أنهت 2500 سنة من الحكم الملكي، وشريعتي يعتبر "مرشد الثورة" و"معلم الثورة" و"مبلور هويتها الإيديولوجية الفكرية"، وشكلت كتاباته نسبة ثمانين بالمائة من حجم الكتب المعروضة على أرصفة المدن الإيرانية، بالإضافة إلى الانتشار الواسع لعدد من الأشرطة المسجلة للإيرانيين غير القادرين على القراءة، وهذا ما جعل أفكار علي شريعتي تنتشر في المجتمع الإيراني بشكل واسع.
يقول شريعتي: "إذا لم تكن شاهدا على عصرك، ولم تقف في ساحة الكفاح الدائر بين الحق والباطل، وإذا لم تتخذ موقفا صحيحا من ذلك الصراع الدائر في العالم، فكن ما تشاء: مصليا متعبدا في المحراب أم شاربا للخمرة في الحانات.. فكلا الأمرين يصبح سواء".
من خلال الانطلاق من هذه المقولة لعلي شريعتي، يمكن القول إن شريعتي حاول تقديم نقد للتشيع على اعتبار مأسسته واستخداماته المشرعنة للهيمنة، فمن خلال الاعتماد على استراتيجية نقدية تقوم على منحى تأويلي، قام شريعتي بإعادة قراءة المفاهيم الدينية الشيعية وإسناد معان جديدة لها، تتصف بشكل أساسي بكونها ذات طابع اجتماعي ثوري، فعقيدة "الانتظار"، أي انتظار ظهور الإمام المهدي، التي رأى فيها شريعتي مصدرا للسلبية والركود المجتمعي، تحولت عنده إلى عقيدة للمسؤولية الاجتماعية تدفع الإنسان إلى الفاعلية التاريخية، و"التوحيد" تحول من مفهوم لاهوتي بحت إلى رؤية شاملة للكون المتناغم والمجتمع اللاطبقي.
وهكذا، إن التشيع في أعمال شريعتي ذو وجود مركب ومتعدد، فهو يشكل مصدرا لتكوين مفهومه للأنثربولوجيا الفلسفية، والذي يرتكز على ما يمكن تسميته بـ"الإنسانية الإسلامية"، حيث الإنسان تجسيد لروح الحياة التي نفخها الله فيه عند الخلق، وبهذه النشأة يصبح الإنسان مسؤولا كاملا عن أعماله وصانعا لمصيره، فشريعتي يرى أن هذه "الإنسانية الإسلامية" تنظر إلى الإنسان ككائن تاريخي، يجب عليه أن يقوم بفحص المفاهيم التقليدية لعقيدته، وأن يحلل تطورها ضمن سياقها الزماني والمكاني ومن منظور اجتماعي وتاريخي وطبقي وباستخدام إبستمولوجيا ذات طبيعة جدلية للوصول إلى الحقيقة.
في الأخير.. إن عملية التأويل هذه تشكل نقدا للإيدولوجية الدينية السائدة التي تدعم الهيمنة السياسية والاجتماعية التي مثلها نظام الشاه.