في العراق ثمّة موتى بلا قبور
"هل تظن أنهم سيقتلوننا؟
نعم .. لكنهم يريدون أولا إثارة رعبنا وسحق إرادتنا، وبعدها سيقتلوننا ثم يلقون جثثنا في المزابل. وقد يذوبون أجسادنا، كي لا يبقوا لنا على أثر. ربما يكون ولدي قد عذب، أو أصيب بطلق ناري في أثناء تهديدهم له بالقتل. ولسوف يُرمى على قارعة طريق جسدا واهنا كي تأكل هوام الأرض منه. أريد فقط أن أعرف ما إذا كان ولدي ما يزال حيا أو قتل. لقد قتلوا كثيرين من دون أن يعرفوا أسماءهم، وغيّبوا كثيرين من دون ذاكرة تحفظهم".
هذه الصرخات مستلة من سيناريو فيلم "المفقود" الذي أنتجته ماكنة هوليود السينمائية في ثمانينيات القرن الماضي، ويحكي قصة اختفاء الصحافي الأميركي، تشارلز هورمان، في غمرة تصاعد أعمال العنف التي سادت تشيلي، عقب إطاحة الرئيس اليساري، سلفادور أليندي، قبل خمسة عقود.
عائلات عراقية تريد فقط أن تعرف ما إذا كان أبناؤها قد ماتوا أو ما زالوا على قيد الحياة
تتكرّر مثل هذه الصرخات على مدار الساعة في مغارات الاختطاف والتغييب التي أقامتها المليشيات في أنحاء مختلفة من العراق، بعيدا عن سلطة الدولة، وفي بعض الحالات تحت أنظارها، ومن دون اعتراض منها. وقد أصبحت هذه الصرخات جزءا من حوارات يائسة، تدور بين آلاف الأسر العراقية التي فقدت أبناءها على حين غرّة، منذ سنوات مضت، ولا تعرف عنهم شيئا. وهي لم تعد تمتلك ترف الوقت، كي تنتظر حكما ينصفها، إنها تبحث عن إجابة عاجلة، هي تريد فقط أن تعرف ما إذا كان أبناؤها قد ماتوا أو ما زالوا على قيد الحياة، وإذا كانوا قد تعرّضوا للموت بالفعل، هل بقيت لهم قبور أم اختفت كل آثارهم بفعل فاعلين، تعرفهم سلطات الأمن جيدا، لكنها لا تجرؤ على محاسبتهم.
وصل بعض هذه الصرخات إلى أذني رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي. وربما ذكّرته ممثلة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، بأن يوما عالميا للمغيبين مر في الثلاثين من أغسطس/ آب الماضي، من دون صدىً يذكر في بلاده، فكان أن أوعز بمتابعة قضايا الاختطاف والتغييب، في خطوةٍ سوف توصف بأنها "شجاعة"، إذا ما قدّر لها أن تتحوّل إلى فعل حقيقي باتجاه الكشف عن الجناة "المعروفين" ومحاسبتهم. أما إذا تنكب عنها، كما فعل في مواجهة ظواهر لا تقل عنها هولا وخطورةً، فلن يكون ذلك مستغربا، خصوصا وهو يسير على حبل مشدود، قد يتهاوى منه في أية لحظة.
مليشيات أقدمت على تنفيذ خطط ممنهجة، مرسومة بخبث، لاختطاف واغتيال مئات الكفاءات من علماء وأطباء وأكاديميين وقادة عسكريين وناشطين مدنيين
هنا تسعفنا الذاكرة في أن الصفحة الأولى من هذا الملف فتحت مع بدايات الغزو الأميركي للعراق، والتسلل الإيراني المشبوه إلى عمق البلاد، وانتشار ذوي الأقنعة السوداء الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية "جيش المهدي" في الشوارع والأزقة، ومارسوا شتى عمليات الاختطاف والقتل التي سرعان ما تصاعدت وتيرتها مع تكاثر المليشيات التي تناسلت مرارا، كما الطفيليات، في ظل النفوذ الذي تحقق لوكلاء إيران الذين أصبحت لهم اليد الطولى في الهيمنة على مقدّرات الأمن في الساحة العراقية. وكان أن أقدمت تلك المليشيات على تنفيذ خطط ممنهجة، مرسومة بخبث، لاختطاف واغتيال مئات الكفاءات من علماء وأطباء وأكاديميين وقادة عسكريين وناشطين مدنيين. وساعدها على ذلك إقرار قانون الإرهاب سيئ الصيت، وخاصة المادة 4 منه على عهد حكومة نوري المالكي الأولى، والأخذ بتقارير "المخبر السري" التي طاولت آلافا من الأبرياء، من دون تحقيق أو استقصاء. وقد قدّرت إحصائية أجراها أحد مراكز الدراسات عدد المخطوفين والمغيبين منذ ذلك الوقت بعشرات الآلاف من الرجال والنساء، والأطفال أيضا، وهو عدد مهول، كاف وحده لإعطاء صورة واقعية عن فداحة وعظم الجرائم التي ارتكبتها تلك المليشيات، والتي شكلت ما يرقى إلى أن يصنف جرائم "إبادة بشرية"، وهو التصنيف الذي دعا إلى اعتماده مركز جنيف للعدالة الدولية الذي اعتبر تصعيد المليشيات عمليات الخطف والتغييب الممنهجة ظاهرة شريرة، غرضها إسكات المعارضين، ومنع الناشطين من ممارسة حقهم الطبيعي في الاحتجاج السلمي وحرية التعبير.
المختصر المفيد أن التصدّي لهذه الظاهرة، والكشف عن مصائر آلاف من المختطفين والمغيبين، قد لا يكتملان من دون نزع سلاح المليشيات وتفكيكها وتجفيف منابع أموالها، بعدما باتت تشكل جيشا موازيا يمتلك القدرة على الفعل والتأثير المضاد. ويدرك الكاظمي قبل غيره، وهو القادم من جهاز المخابرات، أن إطاحتها مطلوبة قبل أن تلتقط أنفاسها وتطيحه!