07 اغسطس 2024
في العلاقات المصرية التركية
زادت الأزمة الليبية من توتر العلاقات المتوترة أصلا بين مصر وتركيا، خصوصا مع تزايد احتمالات الصدام العسكري، ولو غير المباشر، بين البلدين هناك. فمنذ انقلاب يوليو/ تموز 2013 في مصر، والعلاقة بين الدولتين في تراجع على مختلف المستويات، فيما عدا التبادل التجاري، الذي وصل في عام 2018 إلى حوالي 5.3 مليارات دولار.
منذ الانقلاب العسكري، تقف حكومتا الدولتين موقف الضد، وربما الخصم، في معظم الملفات الإقليمية. حيث ترفض الحكومة التركية النظام المصري الحاكم، وتستضيف معارضيه، وتدعم خصومه عبر الإقليم، كقطر والجماعات المعارضة في سورية وليبيا، وتدعم تجربة التحول الديمقراطي في تونس. في حين يمثل النظام المصري أهم نجاحات الثورة المضادّة في العالم العربي، ويحظى بعلاقاتٍ وثيقةٍ بالدول المعادية للربيع العربي، وفي مقدمها إسرائيل والسعودية والإمارات التي تزداد القطيعة بينها وبين تركيا بشكل مضطرد، بسبب موقف الأخيرة الداعم الربيع العربي. وهنا ينبغي طرح سؤالين رئيسيين: ماذا يقول التاريخ عن العلاقة بين البلدين، وهل كانت دوما بهذا السوء؟ ماذا يقول الواقع وموازين القوى الراهنة عن العلاقة بين البلدين، ومن الفائز والخاسر من الصدام الحالي؟ ولعل الإجابة ترتبط بأربع نقاط أساسية.
أولا: تعود العلاقة بين البلدين في العصر الحديث إلى الغزو العثماني لمصر في عام 1517، والذي حوّل مصر إلى ولاية عثمانية أربعة قرون (حتى عام 1915)، وإن اعترفت تركيا
بمصر خديوية تتمتع بالحكم الذاتي في عام 1867، بعد أن جعلت حكم مصر في أسرة محمد علي منذ عام 1839.
وتميّزت مصر خلال الحكم العثماني بمكانةٍ كبيرة، نظرا إلى ثقلها السكاني والديني (الأزهر) والاقتصادي وموقعها الاستراتيجي، كحلقة الوصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، حتى أن مصر استطاعت، تحت حكم محمد علي، منافسة الإمبراطورية العثمانية، وانتزاع سورية منها فترة، بعد التوسع جنوبا في السودان وأعالي النيل.
ثانيا: تأثرت العلاقة بين الدولتين دوما بالسياسات الدولية ومطامع الدول الكبرى التي سعت إلى التأثير على البلدين المهمين في المنطقة، فصراعات الإمبراطورية العثمانية مع الدول الأوروبية أضعفتها. كما سعت الدول نفسها إلى احتلال مصر وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية منذ الحملة الفرنسية في 1801، وحتى تمكّنت بريطانيا من احتلال مصر في 1882، وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية في 1915. وما زالت العلاقة بين البلدين تتأثر بالظروف الدولية، فخلال حكم الرئيس عبد الناصر، عادت مصر وتركيا إلى دورانها في فلك القوى الغربية، لينقلب الحال أخيرا، حيث تحاول تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، الخروج من فلك السياسات الغربية التي باتت مصر أسيرة لها.
ثالثا: بسبب العمق الحضاري والتاريخي بين البلدين، يمكن القول إن المخزون الشعبي لتلك
العلاقة عميق، ويتخطى العلاقات الرسمية بين حكومتي البلدين، فبعد سقوط الخلافة، مثلت مصر (الأزهر) مركزا مهما للدفاع عن الخلافة والتقاليد الإسلامية، في مواجهة حملة النظام التركي، بقيادة كمال أتاتورك، عليهما. في المقابل، تمثّل عودة النظام التركي الحالي إلى العمقين، العربي والإسلامي، ومناصرته القضية الفلسطينية والتحول الديمقراطي إحراجا شديدا للنظام المصري الذي يرفض تلك السياسات، ويحاربها بقوة، على الرغم من شعبيتها وسط قطاع كبير من المصريين.
رابعا: تميل موازين القوة الراهنة بوضوح إلى صالح تركيا على مختلف المستويات، فتركيا دولة ورثت إمبراطورية وجيشا وطنيا حديثا سبق في تكوينه الجيش المصري. كما بدأت تركيا تجربة التحول الديمقراطي قبل مصر بعقود، ونجحت في ترسيخها نسبيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في انتخابات ديمقراطية في عام 2002. وتمتلك تركيا ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة، حيث لا يبتعد كثيرا، في ناتجه القومي السنوي (حوالي 766 بليون دولار في 2018 وفقا لتقديرات البنك الدولي)، عن الاقتصاد السعودي. في حين يتميز الاقتصاد التركي بتعدّد موارده الاقتصادية وعدم اعتماده على استخراج الموارد الطبيعية من باطن الأرض. ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لتركيا، وتتدفق إلى اقتصادها استثمارات خارجية سنوية تفوق مائة مليار دولار. وتتميز تركيا أيضا بجيش ضخم كالجيش المصري، وقد يتفوّق عليه في حجم الميزانية ومستويات التدريب والتسليح، كونه عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى خبراته القتالية، كتدخله أخيرا في سورية. هذا بالإضافة إلى الاستقرار السياسي الذي تتمتع به تركيا مقارنة بمصر.
في المقابل، انكفأت مصر على نفسها منذ عهد حسني مبارك، وتراجعت كثيرا عن دوريْها،
الإقليمي والدولي. وظلت تدور في فلك الولايات المتحدة. وباتت منذ يوليو/تموز 2013 تدور في فلك أضيق، وهو فلك تحالف الثورة المضادة، بقيادة السعودية والإمارات وإسرائيل، والذين يعتمد النظام المصري على دعمهم الاقتصادي والسياسي. وتعاني مصر سياسيا بسبب القمع الذي يمارسه النظام الحالي. ولم يتعدّ حجم الناتج السنوي للاقتصاد المصري ثلث الناتج التركي في عام 2018، وفقا لتقديرات البنك الدولي. كما تنخفض الاستثمارات الأجنبية في مصر مقارنة بنظيرتها في تركيا بشكل كبير، قد تبلغ واحدا إلى عشرين ضعفا، وربما أكثر. ولا تمتلك مصر القاعدة الصناعية، ولا التجارية، التي تمتلكها تركيا، ويميل ميزان التجارة بين البلدين لصالح تركيا، والتي تستثمر في مصر عشرات أضعاف ما تستثمره مصر فيها. كما تمتلك تركيا صناعاتٍ عسكريةً أكثر تطوّرا من نظيرتها المصرية.
هذا يعني أن موازين القوى الراهنة تميل بوضوح لصالح تركيا، والتي تبدو قطبا إقليميا صاعدا، وربما الدولة الأكثر ثقلا في المنطقة، نظرا إلى امتلاكها عناصر القوة المختلفة من جيش واقتصاد ورؤية سياسية، وتطور لنظام الحكم، وإن كانت تعاني اقتصاديا بسبب تراكم الديون الخارجية، وسياسيا بسبب المركزية السياسية المتزايدة خلال السنوات الأخيرة. كما تتميز تركيا أيضا بسياسة خارجية نشطة، سواء على مستوى التحالفات الدولية والقدرة على عقد الصفقات مع أقطاب كروسيا، كما هو الحال في الملفين، السوري والليبي. هذا بالإضافة إلى عدم تردّدها في معارضة أميركا وأوروبا وروسيا، والدخول في مواجهات سياسية معهم، لو اقتضى الأمر.
أما مصر فتبدو، على الرغم من ثقلها الثقافي والديمغرافي والجيوستراتيجي، شريكا رابعا ضمن تحالف قوى الثورة المضادة في العالم العربي، بقيادة السعودية والإمارات وإسرائيل، وهو التحالف الأقل شعبيةً في الأوساط الجماهيرية العربية والإسلامية. وترتبط هذه الوضعية بالأساس بتوجهات النظام المصري الحاكم، والذي يرى نفسه شريكا عضويا في تحالف الثورة المضادة، بل ويحاول تطوير موقعه داخل هذا التحالف، وتقديم نفسه رأس حربة ضد النفوذ التركي في بعض الملفات، كما الحال في ليبيا وفي منتدى غاز شرق المتوسط.
ولعل هذا يوضح المأزق الذي تعيشه العلاقات بين البلدين حالياً، فكلتاهما في حاجة للأخرى. ترى تركيا مصر رأس مثلث سني يضمهما مع السعودية، ودولة ذات أهمية استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية كبيرة، خصوصا أن العلاقات بين البلدين تتمتع بعمق تاريخي ودعم شعبي كبير، فحركة السياحة المصرية لتركيا ما زالت ضخمة، على الرغم من توتر العلاقات بين البلدين (حوالي 150 ألف سائح مصري زاروا تركيا في 2018). كما تحتاج مصر تركيا لتطوير اقتصادها وتحقيق الاستقرار داخليا وفي المنطقة، ولكنها أهدافٌ تبدو مستبعدة حاليا بسبب طبيعة النظام المصري، وسياساته وشبكة علاقاته الخارجية، والتي ترشح العلاقة بين البلدين لمزيد من التدهور في الفترة المقبلة.
أولا: تعود العلاقة بين البلدين في العصر الحديث إلى الغزو العثماني لمصر في عام 1517، والذي حوّل مصر إلى ولاية عثمانية أربعة قرون (حتى عام 1915)، وإن اعترفت تركيا
وتميّزت مصر خلال الحكم العثماني بمكانةٍ كبيرة، نظرا إلى ثقلها السكاني والديني (الأزهر) والاقتصادي وموقعها الاستراتيجي، كحلقة الوصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، حتى أن مصر استطاعت، تحت حكم محمد علي، منافسة الإمبراطورية العثمانية، وانتزاع سورية منها فترة، بعد التوسع جنوبا في السودان وأعالي النيل.
ثانيا: تأثرت العلاقة بين الدولتين دوما بالسياسات الدولية ومطامع الدول الكبرى التي سعت إلى التأثير على البلدين المهمين في المنطقة، فصراعات الإمبراطورية العثمانية مع الدول الأوروبية أضعفتها. كما سعت الدول نفسها إلى احتلال مصر وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية منذ الحملة الفرنسية في 1801، وحتى تمكّنت بريطانيا من احتلال مصر في 1882، وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية في 1915. وما زالت العلاقة بين البلدين تتأثر بالظروف الدولية، فخلال حكم الرئيس عبد الناصر، عادت مصر وتركيا إلى دورانها في فلك القوى الغربية، لينقلب الحال أخيرا، حيث تحاول تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، الخروج من فلك السياسات الغربية التي باتت مصر أسيرة لها.
ثالثا: بسبب العمق الحضاري والتاريخي بين البلدين، يمكن القول إن المخزون الشعبي لتلك
رابعا: تميل موازين القوة الراهنة بوضوح إلى صالح تركيا على مختلف المستويات، فتركيا دولة ورثت إمبراطورية وجيشا وطنيا حديثا سبق في تكوينه الجيش المصري. كما بدأت تركيا تجربة التحول الديمقراطي قبل مصر بعقود، ونجحت في ترسيخها نسبيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في انتخابات ديمقراطية في عام 2002. وتمتلك تركيا ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة، حيث لا يبتعد كثيرا، في ناتجه القومي السنوي (حوالي 766 بليون دولار في 2018 وفقا لتقديرات البنك الدولي)، عن الاقتصاد السعودي. في حين يتميز الاقتصاد التركي بتعدّد موارده الاقتصادية وعدم اعتماده على استخراج الموارد الطبيعية من باطن الأرض. ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لتركيا، وتتدفق إلى اقتصادها استثمارات خارجية سنوية تفوق مائة مليار دولار. وتتميز تركيا أيضا بجيش ضخم كالجيش المصري، وقد يتفوّق عليه في حجم الميزانية ومستويات التدريب والتسليح، كونه عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى خبراته القتالية، كتدخله أخيرا في سورية. هذا بالإضافة إلى الاستقرار السياسي الذي تتمتع به تركيا مقارنة بمصر.
في المقابل، انكفأت مصر على نفسها منذ عهد حسني مبارك، وتراجعت كثيرا عن دوريْها،
هذا يعني أن موازين القوى الراهنة تميل بوضوح لصالح تركيا، والتي تبدو قطبا إقليميا صاعدا، وربما الدولة الأكثر ثقلا في المنطقة، نظرا إلى امتلاكها عناصر القوة المختلفة من جيش واقتصاد ورؤية سياسية، وتطور لنظام الحكم، وإن كانت تعاني اقتصاديا بسبب تراكم الديون الخارجية، وسياسيا بسبب المركزية السياسية المتزايدة خلال السنوات الأخيرة. كما تتميز تركيا أيضا بسياسة خارجية نشطة، سواء على مستوى التحالفات الدولية والقدرة على عقد الصفقات مع أقطاب كروسيا، كما هو الحال في الملفين، السوري والليبي. هذا بالإضافة إلى عدم تردّدها في معارضة أميركا وأوروبا وروسيا، والدخول في مواجهات سياسية معهم، لو اقتضى الأمر.
أما مصر فتبدو، على الرغم من ثقلها الثقافي والديمغرافي والجيوستراتيجي، شريكا رابعا ضمن تحالف قوى الثورة المضادة في العالم العربي، بقيادة السعودية والإمارات وإسرائيل، وهو التحالف الأقل شعبيةً في الأوساط الجماهيرية العربية والإسلامية. وترتبط هذه الوضعية بالأساس بتوجهات النظام المصري الحاكم، والذي يرى نفسه شريكا عضويا في تحالف الثورة المضادة، بل ويحاول تطوير موقعه داخل هذا التحالف، وتقديم نفسه رأس حربة ضد النفوذ التركي في بعض الملفات، كما الحال في ليبيا وفي منتدى غاز شرق المتوسط.
ولعل هذا يوضح المأزق الذي تعيشه العلاقات بين البلدين حالياً، فكلتاهما في حاجة للأخرى. ترى تركيا مصر رأس مثلث سني يضمهما مع السعودية، ودولة ذات أهمية استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية كبيرة، خصوصا أن العلاقات بين البلدين تتمتع بعمق تاريخي ودعم شعبي كبير، فحركة السياحة المصرية لتركيا ما زالت ضخمة، على الرغم من توتر العلاقات بين البلدين (حوالي 150 ألف سائح مصري زاروا تركيا في 2018). كما تحتاج مصر تركيا لتطوير اقتصادها وتحقيق الاستقرار داخليا وفي المنطقة، ولكنها أهدافٌ تبدو مستبعدة حاليا بسبب طبيعة النظام المصري، وسياساته وشبكة علاقاته الخارجية، والتي ترشح العلاقة بين البلدين لمزيد من التدهور في الفترة المقبلة.