17 نوفمبر 2024
في جدلية ثورة فبراير اليمنية
تمرّ الذكرى التاسعة لثورة 11 فبراير اليمنية، في لحظة فوضوية يشهدها اليمن، من انقلاب وحرب في عامها الخامس لن تحسم مصير أي من الطرفين، الشرعي الجمهوري، أو الانقلابي الإمامي، ويهدّد استمرارُها بتشظي الكيان الوطني الواحد وارتكاس نظامه الجمهوري الديمقراطي. ولا يخفى اليوم أن ثمّة من يعتقد أن هذه الحرب هي نتاج لثورة 11 فبراير التي يرى خصومها أنها كانت "نثرة" وبابا للفوضى، فيما يراها أنصارها أعظم ثورة في تاريخ اليمنيين، بسلميتها ومدنيتها وجماهيريتها وشعاراتها. وتستمد جدليتا الثورة العظيمة والفوضى العارمة نقاشاتهما من على ركام هذه اللحظة اليمنية التي ينظر بعضهم إليها بتشاؤم كثير، فيما ينظر آخرون بتفاؤل كبير. يرى المتشائمون أن استمرارية الحرب، من دون تحقيق أهدافها المعلنة، منذرة بخراب اليمن وتشظّيه، فيما يعتبر المتفائلون هذه الحرب بمثابة الترياق الذي ينبغي أن يُجدي في علاج حالة التعسّر اليمنية نصف قرن في الذهاب نحو الدولة وتبيئتها.
تعتبر هذه الثورة لحظة وطنية جسورة وعظيمة، ولكن لا ينبغي أن نقف بعاطفة أمامها، ونتحوّل إلى مجرّد مريدين متسمّرين أمام تلك اللحظة التي كانت نتاج إرادة ثوّارها قطعا، بصفتهم بشرا يصيبون ويخطئون. وتسع سنوات من الثورة كافية لإعادة قراءة هذه الثورة، وتقييم ما أنجزته باعتبارها ثورة سلمية مدنية، ولماذا أخفقت في مسيرة الوصول إلى أهدافها أو تباطأت، وضرورة عمل جردة حسابٍ موضوعيةٍ ومنطقية لكل تداعياتها، وآثارها على تحولات المشهد منذ لحظة الانطلاق، سلبا وإيجابا، حتى لا تتجمّد مواقفنا عند تلك اللحظة، ونظل مشدودين إليها، ونحن نبحث عن مستقبلٍ، كانت أحلام تلك اللحظة عنوانه، وتحقيقها هدفه الأبرز، ولا تزال، وليس اللحظة نفسها.
جرت مياه كثيرة في السنوات التسع، في مجرى الثورة، وسالت دماء كثيرة، وتحوّلت أفكار
وتقلبت مواقف وتحالفات، وطرأت رؤى وتصورات كثيرة تقتضي إعادة التقييم، بكل شجاعة وتجرّد عن أي عواطف ومواقف مسبقة، من كل ما جرى ويجري في المشهد اليمني الراهن. وليس مطلوبا منا اليوم الدفاع أو الهجوم، بشأن كل من يقترب من ثورة فبراير، ناقدا أو هازئا، بقدر ما هو مطلوب أن نكون أكثر شجاعةً ومصداقيةً في مواجهة أنفسنا أولا، متجرّدين من الحساسيات الذاتية، من أجل ثورة فبراير نفسها، الثورة العظيمة التي تتطلب من اليمنيين التجرّد من ذواتهم، والاقتراب أكثر من لحظة الصدق والمكاشفة لأنفسهم أولا، وقبل كل شيء.
ثمّة أخطاء وأسباب كثيرة للإخفاق والتعثر والفشل، منها الذاتي ومنها الموضوعي، يمكن الوقوف عندها لإعادة التقييم المتجرّد إلا من الإيمان بثورة فبراير حتمية سيرورة تاريخية، لم تنته بعد، ولاستمرارها يجب أن يُعاد تصحيح أخطاء مسارها الذي مضت فيه، وأخطاء وقع فيها ثوّارها، فمثلما بادروا هم إلى تصحيح مسار ثورتي آبائهم العظيمتَين، سبتمبر (1962) وأكتوبر (1963)، ففبراير اليوم على المسار نفسه الذي يتطلب التصحيح والتقويم، بوصفها جهدا بشريا غير معصوم عن الزلل.
ومن دون لحظة صدق نقفها أمام أنفسنا، نحن الفبرايرين أولا، والباحثين والكتاب والناشطين والسياسيين، عشنا تلك اللحظة، بحلوها ومرّها، وتجرّعنا مرارة التداعيات والانتكاسات التي
منيت بها ثورتنا السلمية العظيمة، والتي كان أول أسباب تلك الانتكاسات حالة الهدم التي باشرتها الثورة لصنميات تلك اللحظة، محدثة فراغا كبيرا، لم تتمكّن رموز فبراير من ملئه سريعا، والالتحام بالشعب الذي خرج مستبشرا بالتغيير، ومؤمنا به ومضحّيا من أجله، لكنه لم تكن لديه خريطة للسير، راميا بكل ثقله وثقته بالثوار الجدد، فاقدي بوصلة السير أيضاً.
من أهم أسباب الإخفاق الراهن لم يكن عجز الثوار، بقدر ما هو عقم الرؤية وغياب القراءة العميقة للماضي، وعدم إدراك معادلة الحاضر السياسي، محليا وإقليميا، وضبابية رؤية المستقبل. هذه باختصار أهم مكامن الإخفاق، وبالتالي كانت النتائج التي حصدتها الثورة كامنة كلها ومخبأة في تلافيف الماضي الذي لم يقرأه ثوار فبراير جيدا، فكانت الانتكاسة الكبرى نابعةً من قلب الماضي الأثيم والمظلم، والذي أبى أن يرحل يمنيا، حتى اللحظة، كما وصفه يوما محمد حسنين هيكل.
صحيحٌ أن نظرية السبب الواحد في العلوم الإنسانية ماتت وانتهت، وبالتالي لا يمكن وضع سبب واحد تفسيري لكل شيء حدث، ما يعني أن جملة من الأسباب يمكن أن تشكل مادة للدراسة والبحث على طاولة التشريح المنهجي والموضوعي، بعيدا عن كل الأحكام والتصورات المسبقة، لتشخيص الخلل ورسم خريطة سير جديدة لاستئناف مسار فبراير، قبل أن تمضي
الأمور بعيدا عن كل ما حلم به اليمنيون، وضحوا من أجله.
هذه مجرد خواطر سريعة وعابرة، في لحظة تأمل للواقع، وما آلت إليه الأمور، بعد تسع سنوات عجاف من الثورة، مريرة لا يمكن أن يتجاوزها اليمنيون، ما لم يتمكّنوا من تشخيص الأخطاء. ولا يمكن حلحلة مثل هذه المواضيع بسرد للخواطر والتأملات، وإنما الحاجة ماسّة لوقفة جادّة، من كل هذه النخب اليمنية والمؤثرة، وصاحبة الإيمان المطلق باليمن، من خلال ندوات وأبحاث ونقاشات مستفيضة بخلاصات جادّة للخروج من المأزق الراهن وسوداويته.
جرت مياه كثيرة في السنوات التسع، في مجرى الثورة، وسالت دماء كثيرة، وتحوّلت أفكار
ثمّة أخطاء وأسباب كثيرة للإخفاق والتعثر والفشل، منها الذاتي ومنها الموضوعي، يمكن الوقوف عندها لإعادة التقييم المتجرّد إلا من الإيمان بثورة فبراير حتمية سيرورة تاريخية، لم تنته بعد، ولاستمرارها يجب أن يُعاد تصحيح أخطاء مسارها الذي مضت فيه، وأخطاء وقع فيها ثوّارها، فمثلما بادروا هم إلى تصحيح مسار ثورتي آبائهم العظيمتَين، سبتمبر (1962) وأكتوبر (1963)، ففبراير اليوم على المسار نفسه الذي يتطلب التصحيح والتقويم، بوصفها جهدا بشريا غير معصوم عن الزلل.
ومن دون لحظة صدق نقفها أمام أنفسنا، نحن الفبرايرين أولا، والباحثين والكتاب والناشطين والسياسيين، عشنا تلك اللحظة، بحلوها ومرّها، وتجرّعنا مرارة التداعيات والانتكاسات التي
من أهم أسباب الإخفاق الراهن لم يكن عجز الثوار، بقدر ما هو عقم الرؤية وغياب القراءة العميقة للماضي، وعدم إدراك معادلة الحاضر السياسي، محليا وإقليميا، وضبابية رؤية المستقبل. هذه باختصار أهم مكامن الإخفاق، وبالتالي كانت النتائج التي حصدتها الثورة كامنة كلها ومخبأة في تلافيف الماضي الذي لم يقرأه ثوار فبراير جيدا، فكانت الانتكاسة الكبرى نابعةً من قلب الماضي الأثيم والمظلم، والذي أبى أن يرحل يمنيا، حتى اللحظة، كما وصفه يوما محمد حسنين هيكل.
صحيحٌ أن نظرية السبب الواحد في العلوم الإنسانية ماتت وانتهت، وبالتالي لا يمكن وضع سبب واحد تفسيري لكل شيء حدث، ما يعني أن جملة من الأسباب يمكن أن تشكل مادة للدراسة والبحث على طاولة التشريح المنهجي والموضوعي، بعيدا عن كل الأحكام والتصورات المسبقة، لتشخيص الخلل ورسم خريطة سير جديدة لاستئناف مسار فبراير، قبل أن تمضي
هذه مجرد خواطر سريعة وعابرة، في لحظة تأمل للواقع، وما آلت إليه الأمور، بعد تسع سنوات عجاف من الثورة، مريرة لا يمكن أن يتجاوزها اليمنيون، ما لم يتمكّنوا من تشخيص الأخطاء. ولا يمكن حلحلة مثل هذه المواضيع بسرد للخواطر والتأملات، وإنما الحاجة ماسّة لوقفة جادّة، من كل هذه النخب اليمنية والمؤثرة، وصاحبة الإيمان المطلق باليمن، من خلال ندوات وأبحاث ونقاشات مستفيضة بخلاصات جادّة للخروج من المأزق الراهن وسوداويته.