27 أكتوبر 2024
في ذكرى "البعث"
بمناسبة الذكرى الـ72 لإعلان ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي (السابع من إبريل/نيسان)، التي تصادف والمنطقة العربية تمور بكل أشكال الثورات والحروب والهزات والزلازل والاعتداء والاحتلال والوصاية بالقوة ومصادرة قرار الشعوب، هنا وقفة أمام شعار هذا الحزب، ومآلاته والعسف الذي ألحقته به الأنظمة التي ادعت أنها تحكم باسمه، وتسيّده قائدًا للدولة والمجتمع، بينما لم يكن غير مطيةٍ لها وصار عصا في أيدي تلك الأنظمة، تلوّح بها لمن يشرد عن القطيع. العسف الذي كان بسبب اصطياده وحصره في قفص التاريخ، ومنعه من التطور، وتداول أفكاره ومنطلقاته على أساس النصوص التي لا يمكن المساس بثوابتها، بحيث تبقى العقول أسيرة لها في حالة عطالةٍ، تمنعها من التفكير والقدرة على التغيير. كان حزب البعث نتاج مرحلة تاريخية معينة، وكان يمكن للشعور القومي أن يوحد الشعوب الواقعة تحت سيطرة الاستعمار، ومرهونة للتبعية والجهل والتخلف. أما وقد نالت تلك الشعوب استقلالها وتم جلاء الاستعمار عنها، فكان من الحريّ بالأنظمة التي استلمت الحكم في المراحل التالية أن تكون قد طرحت شعارات ووضعت خططًا لتنفيذها، تقوم على أساس معطيات الحالة التاريخية المستجدة، وأن يكون في أولوياتها الانطلاق من المحلية، بكل ما تعني الكلمة، فترتيب أي بيت يكون بترتيب كل غرفة فيه.
الشعار الذي رددناه، جيلاً بعد جيل، بشكل آلي، كان "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة"، فقد اعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي أن العرب أمة واحدة، لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرّة في توجيه مقدّراتها. وبموجبه، فإن الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قُطر من الأقطار العربية أن "يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر"، والأمة العربية "وحدة ثقافية"، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها "عرَضية زائفة"، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي. والوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق
التصرف في شؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته، فحزب البعث يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً مقدّس حافلٌ بالقوى الخالقة، حافز على التضحية، باعثٌ على الشعور بالمسؤولية، فكانت أولى علامات الفصام الصريحة هي انقسام الحزب بين دولتين "شقيقتين"، بمجرد وصول الحزب المؤمن بالقومية العربية الخالدة إلى الحكم، 8 فبراير/ شباط 1963 في العراق، و8 مارس/ آذار من العام نفسه في سورية، وانطلاق العداء والتزاحم على قيادة هذه "الأمة العربية".
لماذا على العرب أن يكونوا أمة، من المحيط إلى الخليج؟ بعضهم نادى بالأمة العربية، وبعضهم بالأمة الإسلامية، وهناك أقوام وشعوب ومجموعات عديدة ومتنوعة تسكن في هذه البقعة الشاسعة، ولها امتداد تاريخي فيها، ترى من حقها أيضًا أن يكون لها نصيبها، وأن تصدح بقوميتها، وتطرح نزوعها إلى أن تكون أمة. لكن المحصلة كانت، وبعد أكثر من خمسة عقود على تبوؤ هذه الأحزاب والأنظمة التي تنادي بالقومية سدة الحكم، أن الدول والمجتمعات انهارت. وبدلاً من تحقيق الـ "رسالة الخالدة"، وبناء الوحدة بين الدول العربية، وترسيخ الحرية والاشتراكية، عصفت الهزات والزلازل بأركان هذا الكيان من المحيط إلى الخليج، وتعمّقت الشروخ، وتمكّن الانقسام من بنيان الدولة الواحدة، والنموذج الأكبر العراق وسورية، البلدان اللذان حكمهما نظامان ديكتاتوريان قمعيان باسم الحزب الساعي إلى صهر شعوب المنطقة بالقومية العربية وإقامة الأمة الخالدة.
لم يكن الخلل في فكر "البعث" بقدر ما هو خلل في الأنظمة التي حكمت باسمه. حكمت بالقبضة الأمنية والقمع، ومارست الاستبداد على مر العقود، منتهكة حقوق المواطنين، فحاصرت الحريات، وكممت الأفواه، وعطلت الحياة السياسية، وقضت على كل أشكال المعارضة، وفرضت فكرها الشمولي، وفرضت ثقافة الخوف، وشجعت على الفساد، وأدارت الحياتين، الاقتصادية والسياسية، بطريقة تخدم مصالحها ومصالح الطبقة الغنية التي ارتبطت بها، مكتفيةً بترداد خطابات جوفاء أن الحزب يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفةٌ على مدى حريتهم في اختيارها. وتركت المجتمع في استنقاعه، فاسحة المجال لرجال الدين أن يمارسوا دورهم في السيطرة عليه، في وقتٍ ترفع فيه شعار العلمانية، وأن الحزب يعتمد في أداء رسالته على الشعب، ويسعى إلى الاتصال به اتصالاً وثيقاً، ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي، لكي يستطيع الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية التي قضى عليها النظام الشمولي والقومية.
هذا الحزب الذي عرّف نفسه بأنه انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء
الاشتراكية، لا يمكن أن تتم إلا بالانقلاب والنضال، بينما منذ قيامه بانقلابه الأول الذي استولى به على السلطة لم يقم بانقلابٍ على الواقع الذي كان الشعب يتطلع إلى النهوض منه، والمضي في مسيرة التطور، والنضال الذي كان من أولوياته النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً، وقضية فلسطين كانت البوصلة، لم يسجّل غير الهزائم المتلاحقة في ظل أنظمة عسكرية، جديدها اعتراف الرئيس الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان، بعد إقراره بالقدس عاصمة لإسرائيل.
حزبٌ نادى بالأمة العربية الواحدة لم يستطع أن يشكل أمة سورية، سورية الغنية بتعدّدها القومي والديني والعرقي والثقافي، التي لكل منطقة منها تراثها وجمالياتها، التي لو تركوها تعبّر عن نفسها، وتكمل بعضها بعضا وتزدهر، لكانت سورية من أكثر البلدان جمالاً وحياة، ولكن ليس الذنب ذنب حزب البعث بالمطلق، إنه ذنب الأنظمة التي حكمت باسمه، ومارست هذا الكم الهائل من الطغيان على الشعب، فشلّته عن التفكير والتطور وابتداع أفكاره الخلاقة. لو قيّض لهذا الشعب أن تحكمه أنظمة ديموقراطية، تصون كرامة مواطنيها، وتحترم حقوقهم، وتوفر لهم مناخ الحرية الذي يفسح المجال لعقولهم أن تعمل وتبدع، لكان حزب البعث وغيره قد صاروا فصلاً من سردية هذا الشعب أو مروياته، ولكان الشعب ابتكر نظرياتٍ جديدة، انطلاقًا من واقع كل مرحلة يمر بها، فحتى الأديان كانت عندما يضيق قالبها على الناس، كانت تتجدّد، لكن الطغيان والشعارات القومية الإقصائية أدّيا إلى ظهور ما هو أكثر طغيانًا وتعصبًا وعنصرية، إنها الجماعات والأحزاب والحركات التي تصدح بالـ "موّال" نفسه، إنما على مقام آخر أمام هذه الانهيارات الكارثية لسورية، جماعات تنادي بأن "نكون أمة واحدة يجمعها دين واحد، بغض النظر عن خلفياتنا العرقية أو انتماءاتنا السكانية. اللهم أعز الإسلام والمسلمين".
لماذا على العرب أن يكونوا أمة، من المحيط إلى الخليج؟ بعضهم نادى بالأمة العربية، وبعضهم بالأمة الإسلامية، وهناك أقوام وشعوب ومجموعات عديدة ومتنوعة تسكن في هذه البقعة الشاسعة، ولها امتداد تاريخي فيها، ترى من حقها أيضًا أن يكون لها نصيبها، وأن تصدح بقوميتها، وتطرح نزوعها إلى أن تكون أمة. لكن المحصلة كانت، وبعد أكثر من خمسة عقود على تبوؤ هذه الأحزاب والأنظمة التي تنادي بالقومية سدة الحكم، أن الدول والمجتمعات انهارت. وبدلاً من تحقيق الـ "رسالة الخالدة"، وبناء الوحدة بين الدول العربية، وترسيخ الحرية والاشتراكية، عصفت الهزات والزلازل بأركان هذا الكيان من المحيط إلى الخليج، وتعمّقت الشروخ، وتمكّن الانقسام من بنيان الدولة الواحدة، والنموذج الأكبر العراق وسورية، البلدان اللذان حكمهما نظامان ديكتاتوريان قمعيان باسم الحزب الساعي إلى صهر شعوب المنطقة بالقومية العربية وإقامة الأمة الخالدة.
لم يكن الخلل في فكر "البعث" بقدر ما هو خلل في الأنظمة التي حكمت باسمه. حكمت بالقبضة الأمنية والقمع، ومارست الاستبداد على مر العقود، منتهكة حقوق المواطنين، فحاصرت الحريات، وكممت الأفواه، وعطلت الحياة السياسية، وقضت على كل أشكال المعارضة، وفرضت فكرها الشمولي، وفرضت ثقافة الخوف، وشجعت على الفساد، وأدارت الحياتين، الاقتصادية والسياسية، بطريقة تخدم مصالحها ومصالح الطبقة الغنية التي ارتبطت بها، مكتفيةً بترداد خطابات جوفاء أن الحزب يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفةٌ على مدى حريتهم في اختيارها. وتركت المجتمع في استنقاعه، فاسحة المجال لرجال الدين أن يمارسوا دورهم في السيطرة عليه، في وقتٍ ترفع فيه شعار العلمانية، وأن الحزب يعتمد في أداء رسالته على الشعب، ويسعى إلى الاتصال به اتصالاً وثيقاً، ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي، لكي يستطيع الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية التي قضى عليها النظام الشمولي والقومية.
هذا الحزب الذي عرّف نفسه بأنه انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء
حزبٌ نادى بالأمة العربية الواحدة لم يستطع أن يشكل أمة سورية، سورية الغنية بتعدّدها القومي والديني والعرقي والثقافي، التي لكل منطقة منها تراثها وجمالياتها، التي لو تركوها تعبّر عن نفسها، وتكمل بعضها بعضا وتزدهر، لكانت سورية من أكثر البلدان جمالاً وحياة، ولكن ليس الذنب ذنب حزب البعث بالمطلق، إنه ذنب الأنظمة التي حكمت باسمه، ومارست هذا الكم الهائل من الطغيان على الشعب، فشلّته عن التفكير والتطور وابتداع أفكاره الخلاقة. لو قيّض لهذا الشعب أن تحكمه أنظمة ديموقراطية، تصون كرامة مواطنيها، وتحترم حقوقهم، وتوفر لهم مناخ الحرية الذي يفسح المجال لعقولهم أن تعمل وتبدع، لكان حزب البعث وغيره قد صاروا فصلاً من سردية هذا الشعب أو مروياته، ولكان الشعب ابتكر نظرياتٍ جديدة، انطلاقًا من واقع كل مرحلة يمر بها، فحتى الأديان كانت عندما يضيق قالبها على الناس، كانت تتجدّد، لكن الطغيان والشعارات القومية الإقصائية أدّيا إلى ظهور ما هو أكثر طغيانًا وتعصبًا وعنصرية، إنها الجماعات والأحزاب والحركات التي تصدح بالـ "موّال" نفسه، إنما على مقام آخر أمام هذه الانهيارات الكارثية لسورية، جماعات تنادي بأن "نكون أمة واحدة يجمعها دين واحد، بغض النظر عن خلفياتنا العرقية أو انتماءاتنا السكانية. اللهم أعز الإسلام والمسلمين".
دلالات
مقالات أخرى
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024