10 ابريل 2019
في زيارة السيسي السودان
جاءت زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى السودان، يومي 19 و20 يوليو/تموز الحالي، باهتة بمعنى الكلمة، فحتى ما يلقيه الإعلام من محسّنات ومنكّهات وشعارات زائفة لم يكن متاحاً. عمد الطرفان، السوداني والمصري، إلى أن تكون الزيارة بلا طعم ولا رائحة ولا معنى، فهي ليست رسميةً، تقوم على البروتوكولات المعروفة، ولا هي ودّية تتدفق المودة من بين تقاريرها. كما أنّها ليست غامضة تثير التكهّنات والتحليلات، ولا هي واضحة تريح ناقلي الخبر والتغطية، بحيث لا يُعييهم الوصف.
لم يكن غرض الزيارة واضحاً، وما أُعلن أنّها "لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك" لا يعدو
أن يكون تعبيراً عاماً، وليس ذا خصوصية، فيمكن أن يأتي لوصف أكثر اللقاءات خطورة، مثلما يمكن أن يُركّب تركيباً لوصف الزيارات الروتينية بغير موضوع، ولا معنى. ويُعدُّ التعبير من ذاك النوع الذي يُوصف بـ"كلام ساكت"، تلك العبارة السودانية التي تُستخدم في التعبير عن فقر الكلام من المضمون، أو أنّه مجرد كلام لا علاقة له بالواقع والحقيقة، ولا يعبّر عنهما. وهو استخدام نادر في اللغة العربية، يُعرف ببلاغة الضد، وذلك باستخدام مفردتين متضادتين، بغرض نفي القيمة. هاتان العبارتان وما بينهما من لغو الكلام وزيفه دار على مدى يومين، مثل تبادل الرئيسين كلمات الشكر والثناء كلٌّ على مجهود الآخر في جهود التنمية والنجاحات الاقتصادية في بلاده، لم يخرج منه الصحفيون بأي جملة مفيدة، ما يعني أنّ اللقاء لم يحمل أبعاداً أخرى، أو أي استراتيجيات واضحة.
غريبٌ هذا الشكل من الزيارات الرئاسية على بلدٍ كالسودان، يكون فيه كل شيء مفتوحا، حتى لو التزمت الجهات المنظمة بأعلى معايير الرسمية والبروتوكول، ما يدلّ على تحكّم الأمن المصري في تفاصيل الزيارة. وقد جعلت هذه الرتابة حدّ الملل بعضهم يتصنّع مهارة التكهّن، ويدلق عليها بعض الغموض، لعلّ وعسى أن تليق بما تُوصف به زيارات الزعماء والرؤساء من أي نوعٍ كانوا. تكهّن أحدهم بأنّ لدى السيسي مهمة معيّنة موكلة إليه من دولةٍ خليجية، وهذا التكليف المفترض هو التقارب مع السودان، وسدّ فرصٍ عديدة يمكن أن تنفذ منها دول تقف في الاتجاه المضاد لمعسكر مصر، فبعد أن هاجم إعلام السيسي السودان هجوماً وصل إلى السبّ والشتم، تراجع وأمر أذرعه بإيقاف الهجوم الإعلامي على السودان، وها هو في هذه الزيارة يعبّر عن عدم رضاه عن بعض ما بدر من وسائل الإعلام المصرية، ويقول إنّ ذلك لا يخدم مصالح البلدين والشعبين.
كان هذا الجفاء بين الزيارة والإعلام السوداني بطلب من الجهة الأمنية المنظمة لزيارة السيسي إلى السودان التي أعلنت أنّ تغطية الزيارة ستكون حصرية على القنوات والفضائيات السودانية، ووسائل الإعلام المحلية، ما أثار استغراب مراسلي الإعلام الأجنبي في الخرطوم. وفي ذلك إشارة واضحة إلى معارك نظام السيسي المتكرّرة السابقة ضد ميكروفون قناة الجزيرة القطرية، فقد أزال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ميكروفون قناة الجزيرة من على طاولة المؤتمر الصحفي، خلال الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والري في مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة في الخرطوم، في ديسمبر/كانون الأول 2015. وقبلها بأسبوعين، ألقى شكري ميكرفون "الجزيرة" على الأرض خلال إحدى جلسات مفاوضات السد الإثيوبي. كما أزال ميكرفونات قناة الجزيرة، مرات، المسؤولون المصريون في اجتماع وزراء الخارجية والموارد المائية ومديري المخابرات في السودان ومصر وإثيوبيا، المنعقد في الخرطوم في إبريل/نيسان الماضي، لبحث ملف سد النهضة. وهكذا كلّما ينوي أفراد النظام المصري، أو رأسه، زيارة السودان، يكون هاجسه الأكبر هذا الميكرفون أو من يمثلونه. عبّرت هذه الوقائع الثلاث عن عدم اعتراض الجانب السوداني عليها، وأُثير جدلٌ كثيف عن أحقيّة الضيف في الإتيان بهذا التصرّف، ومدى تأثيره على احترام البلد المضيف كامل السيادة، والذي لم تثر ثائرته أو يعترض ويندّد، أو يعبّر عن عدم رضاه بما حدث.
وإمعاناً في الحصار، منع الطاقم الأمني المنظّم لزيارة السيسي عشرةً من الكتاب ورؤساء تحرير صحف سودانية من حضور لقاء السيسي في فندق كورنثيا في الخرطوم، بعد أن وُزّعت لهم رقاع الدعوة. وفي هذه الدعوة التي مُنع منها صحفيون داخل بلادهم، دعا السيسى الإعلام المصري والسوداني إلى التبشير بعلاقات البلدين، بالعمل على تعزيز قيم الخير والسلام والاستقرار وتعضيدها، كما قال. وعلى الرغم من احتجاج الاتحاد العام للصحفيين السودانيين على هذا المنع، وإدانته ما حدث، بقوله إنّه لا يتوافق مع نتائج زيارة السيسي الخرطوم، وما يُنتظر من تفاهماتها بشأن نقل العلاقات إلى مربع جديد من الثقة المتبادلة، والحرص على تجاوز التوتر في علاقات البلدين الشقيقين، إلّا أنّها تظلّ إدانةً بلا معنى، كون هذا الاتحاد تابعا للنظام السوداني، ويدلّ ذلك على فقر التنسيق بينه وبين الجهات المنظمة.
وعلى الرغم من واقعة منع الصحفيين، يذكّر السيسي البلد المُضيف بأنّه يعمل وفقاً لمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، أو التآمر عليها. وهذا حديثٌ مردود عليه، فالواقع وليس التاريخ يشهد بتدخله في السودان، سواء بواسطة أمنه أو إعلامه، كما يشهد الواقع بما جرّه على مصر من بلاء التدخّل والتخندق مع أو ضد، حسب مصلحته الشخصية لدوامه على كرسي الحكم، وليس لمصلحة مصر.
لسنا بعيدين عن التاريخ الدموي لحملة محمد علي باشا على السودان 1820، إلّا بمقدار مائتي عام، ففي عام 1821، جعل ابنه إسماعيل كامل باشا القائد الأعلى حاكماً عاماً على السودان، يجمع في يده السلطتين، العسكرية والمدنية. وبتعاقب العصور، وما تنطق به واقعة زيارة السيسي السودان، ها هي حكمدارية الأمن المصري تمارس سلطاتها المطلقة، في منع الصحفيين من تغطية الزيارة، والتحكّم في إعلام السودان من دون الرجوع حتى إلى الباشا نفسه.
لم يكن غرض الزيارة واضحاً، وما أُعلن أنّها "لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك" لا يعدو
غريبٌ هذا الشكل من الزيارات الرئاسية على بلدٍ كالسودان، يكون فيه كل شيء مفتوحا، حتى لو التزمت الجهات المنظمة بأعلى معايير الرسمية والبروتوكول، ما يدلّ على تحكّم الأمن المصري في تفاصيل الزيارة. وقد جعلت هذه الرتابة حدّ الملل بعضهم يتصنّع مهارة التكهّن، ويدلق عليها بعض الغموض، لعلّ وعسى أن تليق بما تُوصف به زيارات الزعماء والرؤساء من أي نوعٍ كانوا. تكهّن أحدهم بأنّ لدى السيسي مهمة معيّنة موكلة إليه من دولةٍ خليجية، وهذا التكليف المفترض هو التقارب مع السودان، وسدّ فرصٍ عديدة يمكن أن تنفذ منها دول تقف في الاتجاه المضاد لمعسكر مصر، فبعد أن هاجم إعلام السيسي السودان هجوماً وصل إلى السبّ والشتم، تراجع وأمر أذرعه بإيقاف الهجوم الإعلامي على السودان، وها هو في هذه الزيارة يعبّر عن عدم رضاه عن بعض ما بدر من وسائل الإعلام المصرية، ويقول إنّ ذلك لا يخدم مصالح البلدين والشعبين.
كان هذا الجفاء بين الزيارة والإعلام السوداني بطلب من الجهة الأمنية المنظمة لزيارة السيسي إلى السودان التي أعلنت أنّ تغطية الزيارة ستكون حصرية على القنوات والفضائيات السودانية، ووسائل الإعلام المحلية، ما أثار استغراب مراسلي الإعلام الأجنبي في الخرطوم. وفي ذلك إشارة واضحة إلى معارك نظام السيسي المتكرّرة السابقة ضد ميكروفون قناة الجزيرة القطرية، فقد أزال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ميكروفون قناة الجزيرة من على طاولة المؤتمر الصحفي، خلال الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والري في مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة في الخرطوم، في ديسمبر/كانون الأول 2015. وقبلها بأسبوعين، ألقى شكري ميكرفون "الجزيرة" على الأرض خلال إحدى جلسات مفاوضات السد الإثيوبي. كما أزال ميكرفونات قناة الجزيرة، مرات، المسؤولون المصريون في اجتماع وزراء الخارجية والموارد المائية ومديري المخابرات في السودان ومصر وإثيوبيا، المنعقد في الخرطوم في إبريل/نيسان الماضي، لبحث ملف سد النهضة. وهكذا كلّما ينوي أفراد النظام المصري، أو رأسه، زيارة السودان، يكون هاجسه الأكبر هذا الميكرفون أو من يمثلونه. عبّرت هذه الوقائع الثلاث عن عدم اعتراض الجانب السوداني عليها، وأُثير جدلٌ كثيف عن أحقيّة الضيف في الإتيان بهذا التصرّف، ومدى تأثيره على احترام البلد المضيف كامل السيادة، والذي لم تثر ثائرته أو يعترض ويندّد، أو يعبّر عن عدم رضاه بما حدث.
وإمعاناً في الحصار، منع الطاقم الأمني المنظّم لزيارة السيسي عشرةً من الكتاب ورؤساء تحرير صحف سودانية من حضور لقاء السيسي في فندق كورنثيا في الخرطوم، بعد أن وُزّعت لهم رقاع الدعوة. وفي هذه الدعوة التي مُنع منها صحفيون داخل بلادهم، دعا السيسى الإعلام المصري والسوداني إلى التبشير بعلاقات البلدين، بالعمل على تعزيز قيم الخير والسلام والاستقرار وتعضيدها، كما قال. وعلى الرغم من احتجاج الاتحاد العام للصحفيين السودانيين على هذا المنع، وإدانته ما حدث، بقوله إنّه لا يتوافق مع نتائج زيارة السيسي الخرطوم، وما يُنتظر من تفاهماتها بشأن نقل العلاقات إلى مربع جديد من الثقة المتبادلة، والحرص على تجاوز التوتر في علاقات البلدين الشقيقين، إلّا أنّها تظلّ إدانةً بلا معنى، كون هذا الاتحاد تابعا للنظام السوداني، ويدلّ ذلك على فقر التنسيق بينه وبين الجهات المنظمة.
وعلى الرغم من واقعة منع الصحفيين، يذكّر السيسي البلد المُضيف بأنّه يعمل وفقاً لمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، أو التآمر عليها. وهذا حديثٌ مردود عليه، فالواقع وليس التاريخ يشهد بتدخله في السودان، سواء بواسطة أمنه أو إعلامه، كما يشهد الواقع بما جرّه على مصر من بلاء التدخّل والتخندق مع أو ضد، حسب مصلحته الشخصية لدوامه على كرسي الحكم، وليس لمصلحة مصر.
لسنا بعيدين عن التاريخ الدموي لحملة محمد علي باشا على السودان 1820، إلّا بمقدار مائتي عام، ففي عام 1821، جعل ابنه إسماعيل كامل باشا القائد الأعلى حاكماً عاماً على السودان، يجمع في يده السلطتين، العسكرية والمدنية. وبتعاقب العصور، وما تنطق به واقعة زيارة السيسي السودان، ها هي حكمدارية الأمن المصري تمارس سلطاتها المطلقة، في منع الصحفيين من تغطية الزيارة، والتحكّم في إعلام السودان من دون الرجوع حتى إلى الباشا نفسه.