07 اغسطس 2024
في صعود تركيا قطباً إقليمياً
تعيش المنطقة هذه الأيام على وقع تنامي التعاون بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا في ليبيا، وما أثاره هذا التعاون من نقد من عواصم عربية وأوروبية وروسيا، نظراً إلى تحالفها مع اللواء المتقاعد المتمرد خليفة حفتر، ومعارضتها لدور تركيا المتنامي في المنطقة، وهو الدور الذي لا يتوقف عن النمو عسكريًا وسياسيًا، حتى باتت تركيا تمتلك قواعد عسكرية في أربع دول عربية، سورية والعراق والصومال وقطر، كما باتت لها علاقات وثيقة مع دول وجماعات سياسية عربية مختلفة، وخصوصاً ضمن صفوف قوى المعارضة والجماعات المتديّنة.
ويمكن النظر إلى تركيا حالياً رأس قطب إقليمي ثالث في مواجهة القطب الذي يضم دول الثورة المضادة العربية وإسرائيل، والقطب الذي يضم إيران وشركاءها والجماعات التابعة لها في المنطقة، والذي يسمّى أحيانًا بالهلال الشيعي. ويضم القطب الذي تقوده تركيا دولة قطر وحركات سياسية داعمة للربيع العربي في المنطقة. كما يمكن النظر إلى دول الربيع العربي، مثل تونس، دولا منفتحة على هذا المحور.
ويتميّز الصعود التركي بسماتٍ خاصة تميّزه عن القوى الإقليمية الأخرى وتستحقّ الرصد مع تبلور القطبية التركية في المنطقة، في مقدمتها السمات الجاذبة الكبيرة التي يتمتع بها النظام التركي الحاكم في الأوساط الجماهيرية العربية، لأسبابٍ كثيرة، كقدرته على تنمية بلاده وتطويرها. إذ تعد تركيا حاليا إحدى أكثر دول الإقليم تقدمًا اقتصاديًا بناتج قومي يقترب من الناتج القومي للسعودية (أكثر دول المنطقة ثراء)، ولكنه يتميز عن الاقتصاد السعودي بتنوع
مصادره، وعدم اعتماده على استخراج الثروات الطبيعية، حيث تمتلك تركيا قاعدةً اقتصاديةً متنوعة بين الزراعة والصناعة والتجارة. ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري والاستثماري الأكبر لتركيا.
أضف إلى ذلك عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكونها ثاني أكبر جيش عسكري داخله، وامتلاكها صناعاتٍ عسكريةً متطوّرة، وجيش مدرّب يتدخل حاليا في صراعاتٍ عسكريةٍ معقدة كسورية. وتمتلك تركيا كذلك نموذجا سياسيا قد يعدّ الأكثر تطورًا في المنطقة المنكوبة بالاستبداد، فعلى الرغم من تراجع تركيا على سلم الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة، وفقا لتقارير مختلفة، إلا أنها ما زالت دولةً ذات تجربة ديمقراطية في محيطٍ يعاني بشدة من مرض الاستبداد والقمع العنيف للمعارضين. كما تمتلك تركيا دبلوماسية نشطة، وقيادة سياسية تسعى إلى تقديم نفسها قائدا إقليميا وإسلاميا لا يتردّد عن معارضة القوى الدولية، كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا، وهي خصائص تزيد من شعبية تركيا لدى الجماهير العربية. لذا يمكن القول إن جاذبية النموذج الذي تقدمه تركيا وسياساتها الراهنة، أو شعبيته، هي إحدى أبرز
خصائص دورها القيادي في المنطقة منذ الربيع العربي.
أما السمة الثانية فهي تنوع أسباب هذا الدور، وكونه لا يرتبط فقط برغبة القيادة السياسية التركية، ولكنه يشكل أيضا نتيجة لتغير موازين القوى الدولية والإقليمية، حيث ترتبط السياسة الخارجية التركية الحالية بصعود حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002، فمنذ ذلك الحين، وتركيا تسعى إلى تطوير مكانتها الإقليمية والدولية بشكل حثيث، بدأ بتوثيق علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، أملًا في تسريع ملف عضويتها، وتحديث اقتصادها، ومواجهة القوى الرافضة للتحول الديمقراطي داخل تركيا. واتسمت تلك الفترة بسعي تركيا إلى الانفتاح على محيطها الإقليمي، وتحسين علاقاتها الاقتصادية والسياسية بمختلف نظم المنطقة، وبتقديم نفسها نموذجا مسلما للديمقراطية، وحلقة وصل بين الشرق والغرب.
ولكن، وبمرور الوقت، تغيرت ظروف كثيرة، دفعت تركيا إلى تغيير سياساتها، وعلى رأس تلك الظروف تغير السياسات الأوروبية والأميركية ذاتها تجاه تركيا والمنطقة من ناحية، ووقوع الربيع العربي من ناحية أخرى، فلم يستمر كثيرا التقدّم الذي حدث في العلاقات التركية الأوروبية بعد صعود حزب العدالة والتنمية، حيث تجمّدت محادثات تصعيد تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، في وقتٍ تم فيه تصعيد دول أخرى لا تمتلك مقومات تركيا الاقتصادية والعسكرية. كما تراجع دور دول إقليمية، كالعراق ومصر وسورية، بسبب الغزو الأميركي للعراق والربيع العربي، ما أدّى إلى تنامي دور دول إقليمية أخرى، كدول الخليج وإيران وتركيا. وأدى الربيع العربي إلى صعود دور القوى الجماهيرية والجماعات السياسية، والتي انفتحت عليها تركيا، على الرغم من محاولتها الحفاظ على علاقاتها ببعض النظم والتفاوض بينها وبين القوى الجماهيرية، كما حدث مع النظام السوري في بدايات الثورة السورية.
كما أدّى الانسحاب الأميركي المضطرد والاختياري من المنطقة إلى إشعال التنافس الإقليمي
على ملء الفراغ الذي تركه، حيث سعت دول، كالسعودية والإمارات وإسرائيل، إلى القضاء على الانتفاضات الجماهيرية، ونجحت في ذلك أحيانا، وخصوصا في مصر. وهنا تظهر رغبة تركيا في عدم خسارة ليبيا كما خسرت مصر، والتي تقاربت معها خلال حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.
وقد سمح التراجع الأميركي أيضا بصعود دور دول، كإيران وروسيا، في سورية، حيث تركت تركيا وحيدةً تقريبًا في مواجهة الدور الروسي ـ الإيراني الداعم لبشار الأسد، في حين تراجع الدوران الأوروبي والأميركي، الداعمان للمعارضة السورية المسلحة. كما تعاونت أميركا مع أكراد سورية ووحدات حماية الشعب الكردية، على الرغم من المعارضة التركية لذلك. وكلها عوامل ساهمت في شعور تركيا بضرورة التحرّك لملء الفراغ وأخذ زمام المبادرة وعدم انتظار الدعم الدولي، والذي لم يُسعف تركيا في مواجهة روسيا وإيران في سورية، ولم يسعف قوى الربيع العربي في مواجهة قوى الثورة المضادّة، والتي تعمل، في أحيان كثيرة، بدعم غربي، ولو جزئي.
وخلال الفترة ذاتها، مرّت تركيا بمحاولة انقلابية في صيف عام 2016، كمًا قامت بتغيير نظامها السياسي من البرلماني إلى الدستوري بعد ذلك بعام. وهو ما أدّى إلى تركيز مزيد من السلطات في أيدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي يقود التغيير الأخير في السياسة الخارجية التركية نحو مزيد من التفاعل مع محيطيها، الإقليمي والإسلامي.
ويبدو الاهتمام التركي المتنامي بالملف الليبي نتاجا للتطورات السابقة، فهو نابع من مصالح وطنية تركية خالصة، كسعي تركيا إلى مواجهة التكتل المصري الإسرائيلي اليوناني القبرصي المتنامي في مجال استخراج الطاقة من البحر المتوسط وتصديرها إلى أوروبا، في وقتٍ تسعى تركيا إلى الحفاظ على مصالحها، وإلى أن تكون ممرا بديلا لصادرات الطاقة للقارّة العجوز. كما تسعى تركيا أيضا إلى منع وقوع ليبيا في أيدي معسكر الثورة المضادّة، كما حدث مع مصر. ويساهم تراجع الدورين الأميركي والأوروبي في الملف الليبي سببًا إضافيًا في تعاظم الدور التركي في مواجهة أدوار دول أخرى، كروسيا ومصر والإمارات الداعمة للجنرال المتقاعد المتمرد خليفة حفتر.
وهذا يأخذنا إلى السمة الثالثة من سمات الصعود التركي قطبا إقليميا، وهي تحدّياته الكبيرة. داخليًا، يعاني الاقتصاد التركي من تراجع معدلات النمو وزيادة الديون وضعف الإنتاجية، ما أدّى إلى تعرّضه لهزة عنيفة منذ أغسطس/ آب 2018، بعدما فرضت أميركا عقوبات على تركيا لأسبابٍ سياسية. كما تعاني تركيا سياسيا من الانقسام، وتصاعد المعارضة لسياسات الرئيس أردوغان. إقليميا، يواجه القطب التركي القطري معارضةً قويةً من دول إقليمية رئيسة، كالسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل. ودوليا، يمثل الصعود الإقليمي التركي تحدّيا للقوى الدولية، كأميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي، والتي لا تتوقف عن نقد السياسات التركية، وإن تعاونت معها أحيانا أخرى.
ويظل صعود الدور التركي وتبلوره في قيادة قطب إقليمي ثالث من أبرز سمات التغيير في المنطقة خلال السنوات الأخيرة. قطب له جاذبيته السياسية والاقتصادية وجماهيريته الواسعة، فرضته ظروفٌ إقليمية ودولية عديدة تماشت مع رغبة القيادة التركية الجديدة، على الرغم مما تواجهه من تحدّيات.
ويتميّز الصعود التركي بسماتٍ خاصة تميّزه عن القوى الإقليمية الأخرى وتستحقّ الرصد مع تبلور القطبية التركية في المنطقة، في مقدمتها السمات الجاذبة الكبيرة التي يتمتع بها النظام التركي الحاكم في الأوساط الجماهيرية العربية، لأسبابٍ كثيرة، كقدرته على تنمية بلاده وتطويرها. إذ تعد تركيا حاليا إحدى أكثر دول الإقليم تقدمًا اقتصاديًا بناتج قومي يقترب من الناتج القومي للسعودية (أكثر دول المنطقة ثراء)، ولكنه يتميز عن الاقتصاد السعودي بتنوع
أضف إلى ذلك عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكونها ثاني أكبر جيش عسكري داخله، وامتلاكها صناعاتٍ عسكريةً متطوّرة، وجيش مدرّب يتدخل حاليا في صراعاتٍ عسكريةٍ معقدة كسورية. وتمتلك تركيا كذلك نموذجا سياسيا قد يعدّ الأكثر تطورًا في المنطقة المنكوبة بالاستبداد، فعلى الرغم من تراجع تركيا على سلم الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة، وفقا لتقارير مختلفة، إلا أنها ما زالت دولةً ذات تجربة ديمقراطية في محيطٍ يعاني بشدة من مرض الاستبداد والقمع العنيف للمعارضين. كما تمتلك تركيا دبلوماسية نشطة، وقيادة سياسية تسعى إلى تقديم نفسها قائدا إقليميا وإسلاميا لا يتردّد عن معارضة القوى الدولية، كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا، وهي خصائص تزيد من شعبية تركيا لدى الجماهير العربية. لذا يمكن القول إن جاذبية النموذج الذي تقدمه تركيا وسياساتها الراهنة، أو شعبيته، هي إحدى أبرز
أما السمة الثانية فهي تنوع أسباب هذا الدور، وكونه لا يرتبط فقط برغبة القيادة السياسية التركية، ولكنه يشكل أيضا نتيجة لتغير موازين القوى الدولية والإقليمية، حيث ترتبط السياسة الخارجية التركية الحالية بصعود حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002، فمنذ ذلك الحين، وتركيا تسعى إلى تطوير مكانتها الإقليمية والدولية بشكل حثيث، بدأ بتوثيق علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، أملًا في تسريع ملف عضويتها، وتحديث اقتصادها، ومواجهة القوى الرافضة للتحول الديمقراطي داخل تركيا. واتسمت تلك الفترة بسعي تركيا إلى الانفتاح على محيطها الإقليمي، وتحسين علاقاتها الاقتصادية والسياسية بمختلف نظم المنطقة، وبتقديم نفسها نموذجا مسلما للديمقراطية، وحلقة وصل بين الشرق والغرب.
ولكن، وبمرور الوقت، تغيرت ظروف كثيرة، دفعت تركيا إلى تغيير سياساتها، وعلى رأس تلك الظروف تغير السياسات الأوروبية والأميركية ذاتها تجاه تركيا والمنطقة من ناحية، ووقوع الربيع العربي من ناحية أخرى، فلم يستمر كثيرا التقدّم الذي حدث في العلاقات التركية الأوروبية بعد صعود حزب العدالة والتنمية، حيث تجمّدت محادثات تصعيد تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، في وقتٍ تم فيه تصعيد دول أخرى لا تمتلك مقومات تركيا الاقتصادية والعسكرية. كما تراجع دور دول إقليمية، كالعراق ومصر وسورية، بسبب الغزو الأميركي للعراق والربيع العربي، ما أدّى إلى تنامي دور دول إقليمية أخرى، كدول الخليج وإيران وتركيا. وأدى الربيع العربي إلى صعود دور القوى الجماهيرية والجماعات السياسية، والتي انفتحت عليها تركيا، على الرغم من محاولتها الحفاظ على علاقاتها ببعض النظم والتفاوض بينها وبين القوى الجماهيرية، كما حدث مع النظام السوري في بدايات الثورة السورية.
كما أدّى الانسحاب الأميركي المضطرد والاختياري من المنطقة إلى إشعال التنافس الإقليمي
وقد سمح التراجع الأميركي أيضا بصعود دور دول، كإيران وروسيا، في سورية، حيث تركت تركيا وحيدةً تقريبًا في مواجهة الدور الروسي ـ الإيراني الداعم لبشار الأسد، في حين تراجع الدوران الأوروبي والأميركي، الداعمان للمعارضة السورية المسلحة. كما تعاونت أميركا مع أكراد سورية ووحدات حماية الشعب الكردية، على الرغم من المعارضة التركية لذلك. وكلها عوامل ساهمت في شعور تركيا بضرورة التحرّك لملء الفراغ وأخذ زمام المبادرة وعدم انتظار الدعم الدولي، والذي لم يُسعف تركيا في مواجهة روسيا وإيران في سورية، ولم يسعف قوى الربيع العربي في مواجهة قوى الثورة المضادّة، والتي تعمل، في أحيان كثيرة، بدعم غربي، ولو جزئي.
وخلال الفترة ذاتها، مرّت تركيا بمحاولة انقلابية في صيف عام 2016، كمًا قامت بتغيير نظامها السياسي من البرلماني إلى الدستوري بعد ذلك بعام. وهو ما أدّى إلى تركيز مزيد من السلطات في أيدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي يقود التغيير الأخير في السياسة الخارجية التركية نحو مزيد من التفاعل مع محيطيها، الإقليمي والإسلامي.
ويبدو الاهتمام التركي المتنامي بالملف الليبي نتاجا للتطورات السابقة، فهو نابع من مصالح وطنية تركية خالصة، كسعي تركيا إلى مواجهة التكتل المصري الإسرائيلي اليوناني القبرصي المتنامي في مجال استخراج الطاقة من البحر المتوسط وتصديرها إلى أوروبا، في وقتٍ تسعى تركيا إلى الحفاظ على مصالحها، وإلى أن تكون ممرا بديلا لصادرات الطاقة للقارّة العجوز. كما تسعى تركيا أيضا إلى منع وقوع ليبيا في أيدي معسكر الثورة المضادّة، كما حدث مع مصر. ويساهم تراجع الدورين الأميركي والأوروبي في الملف الليبي سببًا إضافيًا في تعاظم الدور التركي في مواجهة أدوار دول أخرى، كروسيا ومصر والإمارات الداعمة للجنرال المتقاعد المتمرد خليفة حفتر.
وهذا يأخذنا إلى السمة الثالثة من سمات الصعود التركي قطبا إقليميا، وهي تحدّياته الكبيرة. داخليًا، يعاني الاقتصاد التركي من تراجع معدلات النمو وزيادة الديون وضعف الإنتاجية، ما أدّى إلى تعرّضه لهزة عنيفة منذ أغسطس/ آب 2018، بعدما فرضت أميركا عقوبات على تركيا لأسبابٍ سياسية. كما تعاني تركيا سياسيا من الانقسام، وتصاعد المعارضة لسياسات الرئيس أردوغان. إقليميا، يواجه القطب التركي القطري معارضةً قويةً من دول إقليمية رئيسة، كالسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل. ودوليا، يمثل الصعود الإقليمي التركي تحدّيا للقوى الدولية، كأميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي، والتي لا تتوقف عن نقد السياسات التركية، وإن تعاونت معها أحيانا أخرى.
ويظل صعود الدور التركي وتبلوره في قيادة قطب إقليمي ثالث من أبرز سمات التغيير في المنطقة خلال السنوات الأخيرة. قطب له جاذبيته السياسية والاقتصادية وجماهيريته الواسعة، فرضته ظروفٌ إقليمية ودولية عديدة تماشت مع رغبة القيادة التركية الجديدة، على الرغم مما تواجهه من تحدّيات.