من يتصفح عالم الشعر والشعراء، على امتداد مئة عام على الأقل، يصادف ظاهرة غريبة قلما قاربتها أقلام النقاد، أو أفهام القرّاء. تمثل هذه الظاهرة تجارب شعرية بالغة الأهمية أدبياً ولكنها لا تجد رواجاً ولا تأثير لها، لا على صعيد نقد ناقد ولا قراءة قارئ، مع أننا نصادف إشادة بها في زمنها لدى أصحاب مستويات فكرية رفيعة. ومن جانب آخر هناك تجارب شعرية أقل أهمية، بل ومتدنية، تواصل حضورها بإلحاح لافت للنظر على كلا الصعيدين؛ النقد والقراءة على نطاق واسع. ولكل واحد من هذين النوعين من التجارب مساره في الحياة الثقافية، فالأول يبتعد ويغرق في عتمة الماضي، بينما يشقّ الثاني طريقه إلى أضواء المستقبل. بالطبع تحدث أحياناً اختراقات، فنجد شعراء من النوع الأول يعودون من المستقبل حين تخرجهم وضعية ثقافية ناهضة من النسيان كمن يستخرج تمثالاً من المرمر من التراب فيطلع بكامل بهائه أمام الأنظار والأفهام المبهورة، ونجد شعراء من النوع الثاني يرحلون، في غفلة من عالم الثقافة على الأغلب، إلى الماضي، وتتراكم عليهم أتربة النسيان، وينساهم الحاضر والمستقبل على حد سواء.
ويجد المتابع تساؤلات نادرة هنا وهناك عن السر، فبعضهم يُرجع السبب إلى عزلة حاصرت بعض الشعراء المتميزين في حياتهم وبعد مماتهم. أو يُرجع آخر السبب إلى إغراقهم في الفكر والفلسفة بعيداً عن ضفاف الخيال والتصوير الموحي. أو يعلّل أحدهم الأمر، تفاؤلاً، بأنهم تجاوزوا زمنهم ورحلوا إلى المستقبل وراهنوا عليه كما أكد بعض الشعراء بوعي كامل، وكأنهم أقاموا هناك في انتظار وصول أجيال المستقبل إلى حدائقهم.
وتحضرني هنا إجابات قد تكون مفيدة على كلا الصعيدين، النقد والقراءة، محورها فكرة ما أسميه تعامل الشاعر وشعره مع "أُفق توقّع" الناقد والقارئ الذي تشكله ثقافتهما وذاكرتهما أو المساحة التي يستظلان سماءها ويقيمان على أرضها. ملخَّص هذه الفكرة أن أهم سمة من سمات شعرنا الحديث، ومن دون الحاجة إلى الدخول في مسألة الوزن والقافية على أهميتهما، هي خروجه على "أُفق التوقّع" هذا. ليس أُفق فرد أو أفراد فقط، بل أُفق مجتمع بالدرجة الأولى، متعدد وشاسع يمتد على مساحة وطن عربي ذي جناحين، يمتدان شرقاً وغرباً، ولكنه مع هذا التعدّد والامتداد يحكمه أُفق توقع واحد أدبياً وفنياً وفكرياً.
أهم سمة في شعرنا الحديث هي خروجه على "أُفق التوقع"
من الضروري مبدئياً معرفة أن الشعر العربي المعروف لدينا (ما يسمى الجاهلي وما جاء بعده حتى وقت قريب) منذ نشأته كان شعر ارتجال، والارتجال احتاج إلى قوالب، وهي ما كان يسند الشاعر العربي وهو يقول أو ينشد. وهذه خاصية لم يدرسها أي باحث عربي، بل تخصّص بها باحثون أجانب كشفوا بشكل مقنع أن الشعر الجاهلي على وجه الخصوص كان شعر ارتجال، أي يُقال بناء على قوالب جاهزة (أهم باحث في هذا المجال هو مايكل زويتلر (1940 - 2010) أحد متابعي منهج الباحثين الأميركيين ملمان باري وإلبرت لورد اللذين درسا الملاحم الهوميرية على وجه الخصوص)، ولدينا مثل معاصر في مباريات من يسمون شعراء الزجل في عدد من بلدان وطننا العربي، حيث تُدهش قدرة الشاعر على "الارتجال" الفوري الناسَ، من دون أن يدركوا السر، وهو اعتماد شاعر الزجل على قوالب جاهزة في ذهنه، ولا تحتاج إلا إلى كلمات تُصب فيها. الشاعر هنا يشبه عاملاً لديه قالب لصناعة طابوق بناء، وما عليه إلا أن يصب الطين فيه.
خروج الشعر العربي الجديد، الشعر الحر (قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر)، كان طموحه الخفيّ (وهو طموح غير ملموس نقدياً حتى الآن) هو الخروج على مبدأ النظم أو القول بناءً على قوالب (لا أقصد الأوزان والقوافي، بل تشكيل دلالة العبارة فالسطر فالكتلة كلها) وفي هذا الخروج معنى مهم جداً، وهو أن الشاعر يخرج أيضاً على "أُفق توقّعات" القارئ أو المستمع. شعر الارتجال الذي جرى ويجرى مجراه 90% من الشعر العربي يعتمد في رواجه على استجابته لتوقعات أُفق القارئ أو المستمع، أما الشاعر الخارج على أُفق التوقعات فيظل غريباً وغير مفهوم في عرف الأغلبية التي تصفّق وتهتاج حين تجد الشاعر يستجيب لأُفق توقعاتها، أي القوالب الراسخة في أدمغتها. وهذه الظاهرة غير مدروسة أيضاً تحت مصطلح "أُفق التوقّع"، وإنما هي، وهذا عجيب، محل تمجيد وطرب حين يقفز في ذهن المستمع عجز بيت شعر ما ما أن ينطق الشاعر بصدر بيت.
هنا أصل إلى خاصية شعرية خرج عليها شعرنا الحديث أيضاً مما ساهم في غربته (الشعر الحديث حقاً وليس شعر القوالب المطرب لأنه شعر قوالب) وهي أنه لم يعد شعر مهرجانات.
الشعر الحديث مكتوب للقراءة (بين إنسان ونص بعيداً عن تأثير مستمعين يستعبدهم أُفق محدَّد)، وليس للهتاف به من على المنابر. هذا الأخير الغالب على الساحة الشعرية هو سليل شعر القوالب، شعر مخاطبة "أُفق" القارئ، أو المجموع، الضامن للشهرة والمجد والمال. حين يكون الخروج، لا يجد القارئ ما يعينه، لأن ذاكرته المقولبة لا تستطيع التعامل مع العالم إلا بوساطة القوالب، ومن دونها سيشعر بالضياع، بأن الأرض انسحبت من تحت قدميه، تماماً كما يعجز صانع الطابوق عن صناعة طابوقة واحدة إذا أخذتَ منه القالب. وتحضرني هنا تجربة باحث أميركي هو ملمان باري مع شعراء الملاحم في دول البلقان المعروفين بالارتجال، والذين ينشدون شعرهم بمصاحبة آلة تشبه الربابة لدينا. أخذ هذا الباحث على سبيل التجربة الربابة من يد الشاعر، فوجده يتلعثم ولا يستطيع إكمال قصيدته. معنى هذا أن نغمة الربابة كانت هي التي تساعد شاعر الارتجال على الاسترسال. ويقال إن الشاعر الجاهلي كان يعتمد على إيقاع العصا ليقول الشعر، أي ليذكّره بالقالب ليصب فيه كلماته.
يتعمق في أصقاع مختلفة عن التي ارتادها طوال تاريخه
ومن سمات الخروج على أُفق التوقّع، وهذا عنصر مهم أيضاً، تقديم الشعر الحديث لمفهومٍ للشعر جديد كلياً ومختلف عن مفهومه السائد في الماضي السحيق والحاضر القريب. فلم يعد شعر تطريب وغناء (شوقي)، أو إثارة حماس محاربين (المتنبي)، أو شتم حاسدين أو شعر تلذذٍ بذكر الخمرة (أبو نواس) أو النساء (نزار قباني)... إلخ، بل شعر فِكر يستكشف "سر الوجود"، أي يتعمق في أصقاع مختلفة كلياً عن تلك التي ارتادها شعرنا طوال تاريخه. سر الوجود بمعنى التفكير بالمصير البشري ومكان الإنسان في كون شاسع لا يحيط به لا الفكر ولا النظر.
ومن السمات المهمة التي جعلت الشعر، بالإضافة إلى هجر الماضي، يهجر الحاضر إلى المستقبل أيضاً، واقعة اختلاف التقانة الشعرية، بمعنى أصبح التركيز على الصورة/ الفكرة أكثر مما كان في الماضي. والانتقال أيضاً من "وصف الجمال" إلى "اكتشافه" في الحياة والطبيعة، وهذه الخاصية الأخيرة جعلت رواج الشعر الحديث قليلاً بين جمهور يعشق الأوصاف (التشبيهات) لأنها تريحه من التفكير والإيحاء الذي يعني النظر من نوافذ لا حصر لها في وقت واحد معاً، ولأنه معتاد على المباشر والجاهز. أعني أن الشعر الحديث هنا يطالب القارئ بأن يكون "شريكاً" في إنتاج الدلالة الشعرية، في إنضاج الرغيف وليس في انتظار نضوجه لالتهامه.
وأخيراً ثمة أمرٌ جدير بالنظر والتدقيق؛ هو خروج الشعراء الكبار، أمثال محمود البريكان وتوفيق صايغ وخليل حاوي على سبيل المثال، الذين لا مكان لهم في الثقافة الرائجة، على بضاعة عدد كبير من الشعراء الممثلة في استغلال الجانب الشبيه بالجانب الغريزي في البشر، وليس تحريرهم منه. تناول هذه الظاهرة عالم ألسني سوفييتي بارز هو ل. س فيغوتسكي (تُرجم له في مصر كتاب في غاية الأهمية منذ زمن يرجع إلى سبعينيات القرن الماضي، عنوانه "اللغة والفكر"). وتبسيطاً، أذكر الطبيب بافلوف الذي كشف عمّا يسمّى المنعكس الشرطي، عن طريق تجارب استثار فيها الغريزة لدى الحيوان بإشارة من صوت أو لون أو رائحة وما إلى ذلك. على سبيل المثال، إذا اعتاد الحيوان على سماع جرس حين يقدم له الطعام، وجد أن معدته تبدأ بفرز العصارة الهضمية، ولعابه يسيل (يريّل بلغتنا الفصحى) بمجرد أن يسمع صوت الجرس حتى وإن لم يكن الطعام حاضراً. وسمّي بافلوف هذا نظام الإشارة الأول. أما بالنسبة للإنسان فهناك نظام الإشارة الثاني الذي يتراكب مع النظام الأول، أداته هذه المرّة "الكلمة" فما أن يعتاد عليها بفضل ثقافته وبيئته وذاكرته، حتى يستثار لأمر ما حين تذكر الكلمة. فتستثار "عصاراته" و"يريل" حين يذكر الشاعر كلمات معينة سواء كانت متعلقة بالجنس أو العدو أو الطغاة... إلخ.
ومصداق هذا نلحظه بوضوح في شعر شعراء سرحوا وبرطعوا في هذه المضمار البابلوفي، واشتغلوا حسب تجارب بافلوف على ما يشبه قرع جرس أو إنارة مصباح أحمر، وبهذا يستثيرون القارئ أو المستمع ويحصدون "التصفيق" و "التأوهات". هنا لا يستغل هؤلاء نظام الإشارة الأول فقط بل والثاني، أي اللغة، وخاصة في استثارة اشتهاء الرجل للمرأة، أو العكس، حتى وإن لم يكونا موجودَين بالفعل.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين