قضية فلسطين صارت اليوم عالقة في استعصاء متعدد الحلقات؛ فقد انتهى عهد الحروب الكبرى بين العرب وإسرائيل في سنة 1973، ولم يسفر ذلك عن أية تسوية سياسية بين الفلسطينيين و(إسرائيل). وتكاد حقبة التسويات تشارف على الانصرام، بعدما افتتحتها مصر في سنة 1977، من غير أن تشهد فلسطين خاتمة لآلامها المتمادية.
وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد جهدت لتحتل مكانة بين اللاعبين الكبار في الشرق الأوسط، فصاغت برنامج النقاط العشر في سنة 1974 والذي يعتبر انكفاءً عن شعاراتها الأولى، ومارست دينامية دولية لتأكيد هويتها السياسية باعتبارها حركة تحرر وطني تسعى إلى حرية شعبها، لا منظمة إرهابية. لكنها احتاجت إلى سبعة عشر عاماً كي تتمكن من الانخراط في العملية "السلمية" التي أطلقها مؤتمر مدريد الدولي للسلام في عام 1991.
وها نحن وصلنا، بعد ثمانية وستين عاماً من النكبة، إلى عجزين: عجز الإسرائيليين عن إطفاء شعلة التحرر الوطني لدى الشعب الفلسطيني، وعجز الفلسطينيين عن تحرير وطنهم وأرضهم. وهذه الحال تولِّد، ولو نظرياً، إمكانيةً للتسوية السياسية بين الطرفين. وكان اتفاق أوسلو في سنة 1993 هو المحاولة العملية الوحيدة في هذا السياق. لكن، حتى هذا الاتفاق، فشل بعد ثلاث وعشرين سنة من التفاوض المر والمرير.
وها هي إسرائيل نفسها عالقة في مشكلة لا حلّ قريباً لها؛ فهي غير قادرة على ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة بسكانها سنة 1967، وغير قادرة على الانسحاب منها. وما تعرضه يرفضه الفلسطينيون، وما يريده الفلسطينيون لا يمكن أن تقبل به إسرائيل. فإذا كانت المقاومة الفلسطينية المسلحة قد أرادت تحويل الاحتلال مشروعاً خاسراً، إلا أن المقاومة، جراء تحولات سياسية شتى، انفصلت عن السياسة في مرحلة من المراحل بعد اتفاق أوسلو؛ فبعض الذين استمروا في المقاومة لم يشاركوا في القرار السياسي، بل راحوا يقاومون العملية السياسية (حماس مثلاً).
وبعض الذين انهمكوا في إدارة العملية السياسية صاروا، بالتدريج، ضد المقاومة المسلحة خشية أن تتحول تلك المقاومة إرهاباً (فتح مثلاً).
وبهذا المعنى فإن منظمة التحرير الفلسطينية انخرطت في مقتضيات السياسة بينما كانت المقاومة تجري من خارجها. وآخر محاولة للإمساك بالاثنتين معاً كانت في عهد ياسر عرفات، الذي أسس "كتائب شهداء الأقصى". وأظن أنه دفع حياته ثمنًا لهذا الخيار.
الغرام بالإسرائيليين
يشهد العالم المعاصر انفجارات غير مسبوقة في جميع الاتجاهات كصراعات الهوية في أفريقيا وآسيا، والنزاعات الانفصالية في السودان وليبيا والجزائر ونيجيريا وإندونيسيا والفيليبين، والميل إلى التفكك في أوروبا مثل بلجيكا وإسبانيا (علاوة على ما حصل في يوغوسلافيا وتشيكوسوفاكيا والاتحاد السوفييتي)، وانتشار الجماعات التكفيرية وإرهابها، والأقليات ولا سيما المسيحيون، فضلاً عن اللاجئين إلى أوروبا، والاستبداد ومعضلات الحكم في الدول غير الديمقراطية، ومشكلات التحول إلى الديمقراطية، والنفط والغاز وخطوط الإمداد، والأسلحة النووية خصوصاً في كوريا الشمالية، والسباق على السيطرة على المحيط الهادئ، والرعب من أزمة مالية عالمية جديدة، وقضايا اللاجئين والأكراد والاندماج الاجتماعي... إلخ. وتلفُّ العالمَ العربيَّ سحابةٌ من السواد والنار؛ فمصر تضطرب أمنياً وسياسياً، خصوصاً في سيناء، وسورية تلتهب بنيران تحوِّل تاريخها العظيم رماداً.وفي العراق موت جهنمي، والصراع على النفط والغاز وممراته يبيد شعوب هذه البلاد بأيدي شعوبها.
وفي معمعان هذا الهول تتمتع إسرائيل بأمان ولو نسبي قياسًا على محيطها وجوارها. علاوة على ذلك كله، ها هو العالم يتقلقل بجلبة شديدة كأنه يتقلب في مجبل إسمنت، والبلبلة الدموية تغمر مراكز العالم وأطرافه وتفتح جروحاً متقادمة مثل أوكرانيا والقرم وأرمينيا وناغورنو قرة باخ ما يشير إلى عودة "الحرب الباردة" مجدداً.
محنة وعي
في هذه المحنة الكونية تبدو قضية فلسطين كأنها ما عادت قضية العرب الأولى، بل واحدة من القضايا المعلقة الكثيرة. وما دامت قضية فلسطين ما عادت قضية العرب الأولى، فهذا يعني أن إسرائيل ما عادت عدوة العرب الأولى، وأن ميلاً عربياً يتطور بالتدريج للتخلص من عبء القضية الفلسطينية، وللتقرب من الكيان الصهيوني. فالصحافي الجزائري، عز الدين بن سويح، (من جريدة "لوسوار ألجيري") لم يتردد في زيارة إسرائيل في تموز/ يوليو 2000.
والكاتب العراقي، نجم والي، لم يتورع عن زيارة معرض القدس للكتاب في سنة 2007، ثم أجرى حواراً مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" هاجم فيه فيروز والأخوين رحباني لأنهم غنوا للقدس والعودة، وأعلن أنه يحب الإسرائيليين. أما فريد الغادري، ابن نهاد الغادري، فدعا من الكنيست في حزيران/ يونيو 2007 إلى شن حرب على سورية لإسقاط النظام. وجان بيار ليدو، وهو شيوعي جزائري، زار بدوره إسرائيل في سنة 2010 بعد أن جاهر بصهيونيته في أثناء الحرب على غزة عام 2009. وشاركت المخرجة التونسية، نادية الفاني، في ندوة عُقدت في تل أبيب في سنة 2012، على غرار الروائي الجزائري، بو علام صنصال، الذي وصل إلى القدس في ذكرى تأسيس إسرائيل في سنة 2012، وزار الحائط الغربي (المبكى) معتمراً القبعة اليهودية.
وحل المغني الجزائري، فرحات مهني، ضيفاً على الكنيست في أيار/ مايو 2012 بصفة كونه رئيساً للحكومة الأمازيغية المستقلة التي تطالب بالانفصال عن الجزائر. وغمر السرور أمير عبدي، المسؤول عن العلاقات الخارجية في حزب اليسار الكردي (رئيسه معصوم فيصل)، عندما أرسل تهنئة إلى رؤفين ريفلين غداة انتخابه رئيساً لدولة اسرائيل في سنة 2014. واعترف أبو عمر الحوراني، المتحدث باسم الجيش السوري الحر في محافظة درعا في 12/5/2014 بأن اسرائيل صارت بلداً صديقاً.
وما برح كمال اللبواني، عضو الهيئة التأسيسية في الائتلاف الوطني السوري، زائراً إسرائيل بين الفترة والفترة، وآخرها في 18/2/2016. أما المسؤول عن الاتصال والتواصل مع هؤلاء وغيرهم فهو منذر الصفدي، (مندي)، الذي يتلقى توجيهاته من الصهيوني، أيوب قِرّة.
سقوط الرادع القومي
إن سقوط الرادع القومي والخُلقي في تجاوز الحقوق الفلسطينية والسير نحو معانقة الصهيونيين بذرائع شتى، يبرهن، مرة أخرى، على تدهور مكانة القضية الفلسطينية في العالم العربي، حتى على المستوى الشعبي. لقد تبدلت الأحوال جذرياً، والبيئة العربية التي احتضنت صعود حركة التحرر الوطني الفلسطيني اندثرت وتناثرت هباءً.
لنتذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية ما كان في إمكانها أن تظهر في عام 1964 لولا جمال عبد الناصر، الذي حوّل القاهرة عاصمة لحركات التحرر في أفريقيا وآسيا. لنتذكر أيضاً أن حركة "فتح" نفسها اشتد عودها في البدايات الأولى جراء احتضان سورية لها في التسليح والتدريب وبناء القواعد العسكرية. وفضلاً عن ذلك كله كانت المخيمات الفلسطينية في الأردن وسورية ولبنان الأساس، الذي بُنيت عليه المقاومة الفلسطينية في طور صعودها.
غير أن ذلك كله اندثر اليوم أو تغير؛ فلا قاهرة جمال عبد الناصر موجودة، ولا بيئة عربية ودودة، وما عادت المخيمات في دول الطوق العربية على ما كانت عليه من التحفز والاندفاع، بل تحولت، جراء التدمير والتهميش، إلى مأوى لشبان هائمين ولاهثين وباحثين عن بصيص أمل يلوح في قوارب الهجرة. وفي خضم المتغيرات التي تعصف بالعالم العربي كله صار الفلسطينيون سيزيف العصر الحديث: الهدف مستحيل، لكن الأمل عظيم، أو مثل عملية جز العشب؛ كلما جززته نبت مجدداً، وهذه الحال المضنية تتيح لنا القول إن الشعب الفلسطيني ما دام متشبثاً بأرضه، فإن من المحال أن تندثر قضية فلسطين.
الانتظار الإيجابي
أُرغمت قضية فلسطين على الوقوف في محطة الانتظار السياسي؛ فالجميع بات الآن، دولاً وشعوباً ونخباً سياسية، ينتظر ما ستسفر عنه الحرائق العربية المندلعة في كل مكان. ومن البدهي الاستنتاج أن من المحال تحقيق إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة العصيبة. ولعل الانتظار الإيجابي هو الخيار الواقعي والممكن. والانتظار الإيجابي، على غرار الحياد الإيجابي، الذي صنعه جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وشو إن لاي وتيتو في مؤتمر باندونغ عام 1955، يعني انتظار تبدلات جوهرية في السياسات العامة يكون الطرف الفلسطيني في هذه الأثناء جاهزًا لاغتنام الفرصة لنيل حقوقه التاريخية.
والانتظار الإيجابي ليس انتظاراً سلبياً، أي بلا جهد يُصنع أو خطط تُرسم، بل يتضمن العمل على تمكين الفلسطينيين من البقاء في أرضهم، والنضال بالوسائل المتاحة للإبقاء على جذوة التحرر الوطني متقدة، واستعمال جميع أوراق القوة (ليس العنف بالضرورة) في سبيل نزع الشرعية الدولية عن إسرائيل كالمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، ومحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، ومنابر الأمم المتحدة، كاليونيسكو، والمواجهة الشعبية اليومية ضد الاستيطان والاعتداء على الأراضي وغير ذلك. فالانتظار السلبي كمن يقف في محطة القطارات ملوحاً بالمناديل، بينما الانتظار الإيجابي كمن يجهز الحقائب ليصعد إلى القطار في المحطة الملائمة.
وفي هذا الميدان، أرى أن من الضروري جداً أن يغير الخطاب الفلسطيني الموجّه إلى الرأي العام العالمي مفرداته، فخطاب الضحية المتقادم لا ينفع، وهذا ما اكتشفناه بالتجربة، لأن الضحية لدى الغرب هي اليهود، بل الضحية التي انتصرت. ومن الملائم أن يقدم الفلسطينيون قضية فلسطين باعتبارها قضية شعب مضطهد ومتحضر يسعى إلى إزالة الظلم الذي حاق به، وإلى مقاومة العنصرية والاضطهاد القومي في سبيل غاية إنسانية هي الحرية والديمقراطية والمبادئ الإنسانية.
مصير المشرق العربي كله
كانت فلسطين تحتل المكانة الأهم في شعارات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. وكانت تلك الشعارات لا تنفك مرددة أن "فلسطين عربية" و "فلسطين قضية العرب الأولى" وهي "جوهر القضية العربية"... إلخ. وهذا ما كان بدهياً في تلك المرحلة حين كانت "القضية العربية" في جوهرها هي الاسم الآخر لمشروع التحرر القومي من الاستعمار، ولمشروع الوحدة القومية والنهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية. وقد اكتسبت القضية العربية تعريفها السياسي من اصطدامها بالمشروع الاستعماري، الذي تجلى على أرض فلسطين في هيئة "دولة إسرائيل".
غير أن الأحوال "تشقلبت" رأساً على عقب، ومرات متتالية منذ نحو ثلث قرن. ومع ذلك فإن قضية فلسطين ليست مجرد قضية إنسانية لشعب شُرِّد من دياره، وليست نزاعاً على الأرض بين مجموعة ظُلمت في أوروبا وراحت تبحث عن مأوى وبين سكان البلاد الأصليين، وإنما هي مصير المشرق العربي كله في مواجهة "المسألة اليهودية" التي هي، في الصميم، جوهر الاستعمار في بلادنا.
(كاتب وباحث فلسطيني/ لبنان)