27 سبتمبر 2015
في هجاء السياسة الممكنة واستحالتها
لم تكن الخطابات السياسية صادقة قط، على الرغم من واقعيتها النسبية. غالبا ما تزيّف الحقائق وتعكسها، لتبدو غاياتها في الصالح العام، بينما باطنها، في أغلب الأحيان، مصلحة السياسيين وأصحاب القرار. ثم يَلتمس المنَوَّمُون إعلاميا والمغَيَّبُون ذهنيا، بعد ذلك، العذر للقرارات غير المقبولة منطقياً، بمنطق أفضلية الحال السيئ من الحال الأسوأ... وكأن قدرنا ألا نطمح للأفضل، إلا في حدود السيئ المتاح، ثم إذا كان تغيير الحال، المؤمل، ليس سوى استمرار تثبيت الحال السابق بأفضلية نسبية، فلماذا يُقَدّم السياسيون أنفسهم على أنهم أصحاب حلول مطلقة، و يُقْدِمُون على المستحيل ببلادة أو دهاء، ثم يتحججون بعدها بصعوبة الظروف، على الرغم من علمهم المسبق بها، لتستمر الشعوب القانعة الخاضعة في الأمل في أن تعاقب الأحزاب على السلطة يأتي بالخير الذي لن يصيبها منه إلا القليل، بما يضمن استقرار أوضاع النخبة السائدة والمستفيدة... فأي سياسة ستنقذ، من براثن السياسيين أنفسهم، البسطاءَ القاصدين بسذاجة كل خمس سنين صناديق اقتراع لا تغيّر غير أسماء المستغلين، المستغلين الغباء العام وآليات السياسة الممكنة لتحقيق مصالحهم.
أزمة السياسة، والوعي السياسي عموماً، هي جزء من أزمة الوجود المتخلف نفسه، في غياب إدراك أو تجاهل المعادلة البديهية للحق والواجب، وتعقد النظام الاجتماعي، واللغط الفكري والأيديولوجي المصاحب وانعكاساته السلوكية. لتصبح السياسة المتخلفة في البلد المتخلف جزءاً من المشكلة الأساسية، فكيف ستكون وسيلة حل معضلة الإنسان. ولأن منظري الديمقراطية فاتهم توضيح شروط سلامتها، من قيم أخلاقية ووعي عام، ما يجعلها في غياب الشرطين نظاماً فاسداً لانعدام ضمانات ذاتيه لصلاحه وصلاحيته. فالديمقراطية تقتات من مكونات محيطها العام صلاحاً وفساداً، فحتمية الفساد في الوضع الراهن أكبر من المصالح المحتملة والمرتجاة، لأنه متصل ومتأصل من الاستبداد الخفي، أو المعلن، كأساسين لنظام الحكم. وقد استفاد الأخير من شكلياتها، ودجن مكوناتها المؤسساتية، لإيجاد نظام هجين، حافظ به على جوهره، في حلة استبداد ديمقراطي جديد، بتواطؤ نخب سياسية وعميلة، تكالبت على اقتسام المصالح... بلعبة تحالفات هزلية، على رقعة جهل عام ومطبق، يتقاسم الأطراف فيها، ويتبادلون دور المعارضة والحكومة والنقابة والجلاد والضحية، باستعمال أساليب دعائية تضخيمية أكثر ما يهم فيها استقطاب أصوات المتخلفين... برفع شعار الإصلاح ومحاربة الفساد، مع تحفظ سافر كلما تحتَّم الانتقال من المجرد إلى المحدد، "فساد من؟ وإصلاح ماذا؟"... يضيع المساكين تارة في تأويل المبهم والمتشابه من الخطابات الفارغة، مركزين اهتمامهم على الصراع القائم بين الفرق السياسية والمكونات الثقافية للمجتمع أكثر من اهتمامهم بقضاياهم الأساسية من حرية وعدل ومساواة... منتظرين عطف الظروف في لعبة إلهاء لا يدركون قواعدها جيداً، تعتمد أساسا على مشاركتهم الشكلية كل خمس سنين. ينتج منها ما لا يتحكمون فيه، على الرغم من أنهم سبب في كل تلك النتائج.
لهذا، فالسياسة في العالم المتخلف لا تهتم بأداء الحق وحل مشكلات الإنسان، بقدر إيجاد الوسائل الضرورية والشرعية لاستغلاله والتحكم فيه، بإيجاد مفاهيم تراعي مصلحة الفئة المسيطرة قبل غيرها. على الرغم من أن غاية العقد القائم بين الحاكم والمحكوم مراعاة المصالح العامة، وليس إلزام المحكوم بما هو في مصلحة الحاكم، لتوطد، في هذا السياق المتخلف والمضطرب، مفاهيم تعتبر أداء الحق إنجازا ينتظر مؤديه شكراً، والاستقرارَ ثبات كل تلك المفاهيم والأوضاع، ليس بعد محاولة تغييرها غير الطوفان والفوضى.
فكيف يكون الإصلاح سياسياً قبل إصلاح السياسة نفسها؟ وكيف تُصلح من دون تغيير لبها الاستبدادي؟ ثم إن القوى التي وجب عليها المطالبة بذلك، آثرت الانبطاح، وتسابقت على خطب الود وكسب الرضا، وتحقيق المصالح المادية والمعنوية... فالحلقة المفرغة التي يدور في السذّج المؤمنين بإمكانية الإصلاح أو التغيير في ظل الوضع السياسي الراهن والمستقر، يتوجسون خيفة من وهم زرعته الصور الذهنية المترسخة من حالات مشابهة، مركزين على نتائجها الظاهرة فقط، ومعرضين عن أسبابها الحقيقية، فإذا كان الاستقرار العام رهينة استمرار وضع لا يصب في المصلحة العامة، فكيف تكون المصلحة العامة في استمراره؟
حركية الشعوب عموما بكل مكوناتها بطيئة وغير منضبطة، ويطغى على إدراكها الانفعال الدائم وانعدام البصيرة والتوجس، فكمية الخوف والقلق في حياة الإنسان تجعل منهما المحفز الوحيد لأغلب قراراته وحركته. الخوف من السلطة من الظلم، من المستقبل من الفقر، من الحقيقة، من المعارضة الفعلية، من خطى التغيير. هذا الخوف المسيس بشكل مباشر يصبح آلة تحكم في دفعه إلى اللعبة، على الرغم من علمه المسبق بعدم جدواها، وقبوله الاضطراري على مضض بكل القرارات السياسية، وإن ضرت بوجوده. وعليه، يسقط واجب المشاركة لرفع مؤشر الديمقراطية الذي سيجلب المستثمرين والسياح. وعليه يقع دائما عبء التضحية من أجل الوطن، وكلما تحسر على اختيار، غيّره في الاقتراع الموالي بمنطق تجريب متجدد، الذي لو آثرناه كل خمس سنين، في وجود 33 حزبا مثلا، سنحتاج إلى 165 سنة لتجريبها كلها، لنخرج، في نهاية المطاف، بخلاصة عدم جدواها بعد ثلاثة أجيال، وعدم جدوى كل هذا الهرج والمهرج.
مرت عقود منذ الاستقلال في المغرب، ولا زالت لدينا المشكلات نفسها والمطالب نفسها، وقد تراكمت عليها مشكلات محكمات وأخر متشابهات. وبالكاد، نرى سياسات واضحة حلت مشكلا بعينه بشكل نهائي منذئذ. حتى يبدو لك أن أهم سياسة فعّالة، إلى الآن، هي سياسة السياسة، يصيح الثقلاء الديمقراطيون في هذا الخضم بشعارات صدئة اعتادوا اجترارها كلما همهم معترض، داعينه إلى دخول المستنقع السياسي، ليقطع الطريق على الفاسدين، والحقيقة أن دخول المعترك هو اجترار إلى ضحالة مياهه، واتساخ حتمي.
ماذا بعد تجربة اليمين واليسار والمعتدل والمتأسلم. ماذا بعد كل هذا الإنفاق والإخفاق المتكرر، كل العقاقير السياسية فشلت في شفائنا من الجهل والتخلف والظلم. والسبب أن الأدوية السياسية المستعملة لا تروم شفاءنا بقدر تخديرنا، في تجاهل تشخيص سرطان مفسد ينخر بنيات المؤسسات وسلوك الأشخاص. لتكون حصيلة تدبير النظام الاجتماعي، بكل مكوناته، سيئة، لأننا اكتفينا بتزيين الواجهة والأعراض عن العيوب البنيوية. نذرّ الرماد في عيون الزائرين، بترقيع أوضاعٍ سرعان ما ستتآكل رقعها، لتكشف عورة الوهم المبني على رفات وجودنا البائس الحزين، يطوف حوله انتظار عاجز خنوع مستكين، يعكس عجزنا أمام الحل الحقيقي والمعجز، لأن كل الحلول الممكنة مستحيلة، في ظل الوضع الراهن.
أزمة السياسة، والوعي السياسي عموماً، هي جزء من أزمة الوجود المتخلف نفسه، في غياب إدراك أو تجاهل المعادلة البديهية للحق والواجب، وتعقد النظام الاجتماعي، واللغط الفكري والأيديولوجي المصاحب وانعكاساته السلوكية. لتصبح السياسة المتخلفة في البلد المتخلف جزءاً من المشكلة الأساسية، فكيف ستكون وسيلة حل معضلة الإنسان. ولأن منظري الديمقراطية فاتهم توضيح شروط سلامتها، من قيم أخلاقية ووعي عام، ما يجعلها في غياب الشرطين نظاماً فاسداً لانعدام ضمانات ذاتيه لصلاحه وصلاحيته. فالديمقراطية تقتات من مكونات محيطها العام صلاحاً وفساداً، فحتمية الفساد في الوضع الراهن أكبر من المصالح المحتملة والمرتجاة، لأنه متصل ومتأصل من الاستبداد الخفي، أو المعلن، كأساسين لنظام الحكم. وقد استفاد الأخير من شكلياتها، ودجن مكوناتها المؤسساتية، لإيجاد نظام هجين، حافظ به على جوهره، في حلة استبداد ديمقراطي جديد، بتواطؤ نخب سياسية وعميلة، تكالبت على اقتسام المصالح... بلعبة تحالفات هزلية، على رقعة جهل عام ومطبق، يتقاسم الأطراف فيها، ويتبادلون دور المعارضة والحكومة والنقابة والجلاد والضحية، باستعمال أساليب دعائية تضخيمية أكثر ما يهم فيها استقطاب أصوات المتخلفين... برفع شعار الإصلاح ومحاربة الفساد، مع تحفظ سافر كلما تحتَّم الانتقال من المجرد إلى المحدد، "فساد من؟ وإصلاح ماذا؟"... يضيع المساكين تارة في تأويل المبهم والمتشابه من الخطابات الفارغة، مركزين اهتمامهم على الصراع القائم بين الفرق السياسية والمكونات الثقافية للمجتمع أكثر من اهتمامهم بقضاياهم الأساسية من حرية وعدل ومساواة... منتظرين عطف الظروف في لعبة إلهاء لا يدركون قواعدها جيداً، تعتمد أساسا على مشاركتهم الشكلية كل خمس سنين. ينتج منها ما لا يتحكمون فيه، على الرغم من أنهم سبب في كل تلك النتائج.
لهذا، فالسياسة في العالم المتخلف لا تهتم بأداء الحق وحل مشكلات الإنسان، بقدر إيجاد الوسائل الضرورية والشرعية لاستغلاله والتحكم فيه، بإيجاد مفاهيم تراعي مصلحة الفئة المسيطرة قبل غيرها. على الرغم من أن غاية العقد القائم بين الحاكم والمحكوم مراعاة المصالح العامة، وليس إلزام المحكوم بما هو في مصلحة الحاكم، لتوطد، في هذا السياق المتخلف والمضطرب، مفاهيم تعتبر أداء الحق إنجازا ينتظر مؤديه شكراً، والاستقرارَ ثبات كل تلك المفاهيم والأوضاع، ليس بعد محاولة تغييرها غير الطوفان والفوضى.
فكيف يكون الإصلاح سياسياً قبل إصلاح السياسة نفسها؟ وكيف تُصلح من دون تغيير لبها الاستبدادي؟ ثم إن القوى التي وجب عليها المطالبة بذلك، آثرت الانبطاح، وتسابقت على خطب الود وكسب الرضا، وتحقيق المصالح المادية والمعنوية... فالحلقة المفرغة التي يدور في السذّج المؤمنين بإمكانية الإصلاح أو التغيير في ظل الوضع السياسي الراهن والمستقر، يتوجسون خيفة من وهم زرعته الصور الذهنية المترسخة من حالات مشابهة، مركزين على نتائجها الظاهرة فقط، ومعرضين عن أسبابها الحقيقية، فإذا كان الاستقرار العام رهينة استمرار وضع لا يصب في المصلحة العامة، فكيف تكون المصلحة العامة في استمراره؟
حركية الشعوب عموما بكل مكوناتها بطيئة وغير منضبطة، ويطغى على إدراكها الانفعال الدائم وانعدام البصيرة والتوجس، فكمية الخوف والقلق في حياة الإنسان تجعل منهما المحفز الوحيد لأغلب قراراته وحركته. الخوف من السلطة من الظلم، من المستقبل من الفقر، من الحقيقة، من المعارضة الفعلية، من خطى التغيير. هذا الخوف المسيس بشكل مباشر يصبح آلة تحكم في دفعه إلى اللعبة، على الرغم من علمه المسبق بعدم جدواها، وقبوله الاضطراري على مضض بكل القرارات السياسية، وإن ضرت بوجوده. وعليه، يسقط واجب المشاركة لرفع مؤشر الديمقراطية الذي سيجلب المستثمرين والسياح. وعليه يقع دائما عبء التضحية من أجل الوطن، وكلما تحسر على اختيار، غيّره في الاقتراع الموالي بمنطق تجريب متجدد، الذي لو آثرناه كل خمس سنين، في وجود 33 حزبا مثلا، سنحتاج إلى 165 سنة لتجريبها كلها، لنخرج، في نهاية المطاف، بخلاصة عدم جدواها بعد ثلاثة أجيال، وعدم جدوى كل هذا الهرج والمهرج.
مرت عقود منذ الاستقلال في المغرب، ولا زالت لدينا المشكلات نفسها والمطالب نفسها، وقد تراكمت عليها مشكلات محكمات وأخر متشابهات. وبالكاد، نرى سياسات واضحة حلت مشكلا بعينه بشكل نهائي منذئذ. حتى يبدو لك أن أهم سياسة فعّالة، إلى الآن، هي سياسة السياسة، يصيح الثقلاء الديمقراطيون في هذا الخضم بشعارات صدئة اعتادوا اجترارها كلما همهم معترض، داعينه إلى دخول المستنقع السياسي، ليقطع الطريق على الفاسدين، والحقيقة أن دخول المعترك هو اجترار إلى ضحالة مياهه، واتساخ حتمي.
ماذا بعد تجربة اليمين واليسار والمعتدل والمتأسلم. ماذا بعد كل هذا الإنفاق والإخفاق المتكرر، كل العقاقير السياسية فشلت في شفائنا من الجهل والتخلف والظلم. والسبب أن الأدوية السياسية المستعملة لا تروم شفاءنا بقدر تخديرنا، في تجاهل تشخيص سرطان مفسد ينخر بنيات المؤسسات وسلوك الأشخاص. لتكون حصيلة تدبير النظام الاجتماعي، بكل مكوناته، سيئة، لأننا اكتفينا بتزيين الواجهة والأعراض عن العيوب البنيوية. نذرّ الرماد في عيون الزائرين، بترقيع أوضاعٍ سرعان ما ستتآكل رقعها، لتكشف عورة الوهم المبني على رفات وجودنا البائس الحزين، يطوف حوله انتظار عاجز خنوع مستكين، يعكس عجزنا أمام الحل الحقيقي والمعجز، لأن كل الحلول الممكنة مستحيلة، في ظل الوضع الراهن.