30 ديسمبر 2021
في وداع صديق قديم
عرفت الكاتب محمود صالح في أواخر عام 1998، كنا وقتها في بدايات إصدار صحيفة (الجيل)، التي ولدت وماتت في شقة في وسط البلد تقع على ناصية شارع الشواربي، أظنه لم يكن وقتها قد تخرج بعد من كلية الآداب بجامعة الزقازيق، لكن كتابته كانت ملفتة في تميزها، وما جعلنا نتقارب سريعاً أنه كان معجباً بتجربة جريدة (الدستور) التي كانت قد رقدت على رجاء القيامة في مطلع نفس العام.
أتذكر أنه جاء إلى الصحيفة بحوار جميل مع الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذي كان قد اعتزل الحياة العامة منذ سنوات، ولم يكن يقبل بإجراء أي حوارات صحفية حتى لو كانت مع أعز أصدقائه، بعدها بفترة أضاف محمود إلى قائمة إنجازاته حواراً آخر مع رسام الكاريكاتير الأجمل حجازي، قبل أن يغادر العم حجازي شقته في المنيل التي حاولت أنا وغيري اقتحام عزلته فيها، ويعود إلى طنطا مسقط رأسه. لم يكن غريباً على من عرف محمود أن يدرك لماذا وافق المتمردان الموهوبان فؤاد قاعود وحجازي على السماح لمحمود بمحاورتهما دوناً عن غيره، فالأرواح المتمردة تتآلف حين تتعارف، وقد كان محمود يخبئ خلف صمته الطويل ونظراته المتوترة الكثير من الغضب والتمرد.
ربما كانت مشكلة محمود صالح أنه انتشى أكثر من اللازم بعالم حجازي وفؤاد قاعود، ونسي أنهما قبل أن يصلا إلى مرحلة التمرد على الوضع القائم بأكمله، خاضا تجارب حافلة اضطرا فيها للعمل على غير هواهما أحياناً، وللصبر على زعيط ومعيط ونطاط الحيط الذين يملؤون الساحة الصحفية، وغاب عنه أن تجربتهما المتمردة لم تولد بين يوم وليلة، بل عبر تجارب حافلة وإخفاقات وعثرات وارتباكات. أذكر أن محمود لامني في البداية على قرار العمل في صحيفة (القاهرة) التي أصدرتها وزارة الثقافة مع أستاذنا الراحل صلاح عيسى عام 1999، فذكّرته أنني عملت قبل ذلك في مجلة (صباح الخير) التي كان يعمل فيها رمزاه الأثيران حجازي وفؤاد قاعود، وعملت قبلها في مجلة (المصور)، بل وعملت في صحف ومجلات أتعس حالاً بكثير، وأنني سأظل مديناً للظروف التي دفعتني لتلك التجارب، فما تعلمته منها لا يقدر بثمن، وأنه سيجد نفسه مضطراً يوماً ما لخوض تجارب لا تكون على هواه، وسيتعلم منها أكثر بكثير من التجارب التي يظنها مصممة على مقاس أحلامه.
تركت العمل في صحيفة (القاهرة) بعد ثلاثة أشهر فقط، وعدت للجلوس على القهوة، وضحكت أنا ومحمود للصبح حين التقينا في غرفة متواضعة الحال كنت أسكنها في شارع سعد زغلول، وكانت تلك أول مرة نلتقي فيها بعد تجربتي الكارثية في (القاهرة)، وكانت أيضاً آخر مرة، باستثناء مرة عابرة التقينا فيها في ميدان التحرير أيام الثورة، كان قد حدثني قبلها في أكثر من مكالمة تليفونية عن تجارب مريرة خاضها في العمل في صحف حزبية ومستقلة، وقد كان يعمل في القسم الثقافي، أو في قسم الديسك المكلف بإعادة صياغة ما ينشر في الصحف من أخبار وتحقيقات ومقالات أحياناً، وهي مهنة مهلكة للعمر والروح، كتب عنها أخي حمدي عبد الرحيم كتاباً عذباً وموجعاً اسمه (فيصل ـ تحرير أيام الديسك والميكروباص)، لكنها في النهاية تظل مهنة أشرف من التعريص وسؤال اللئيم وكتابة التقارير الأمنية في الزملاء، ولولاها لما تمكن كتّاب رائعون كثيرون من الصمود والتصدي لوساخات الحياة.
على مر السنين قرأت لمحمود صالح الكثير من المقالات والتحقيقات والتغطيات الصحفية، لكنه كان أبرع ما يكون في إجراء الحوارات الصحفية، وهو فن رفيع يحسبه الكثيرون سهلاً، وربما لم يدرك الناس قيمته إلا بعد أن تم اغتياله آلاف المرات خلال السنين الأخيرة على أيدي عديمي الموهبة والدراية. لم تكن مهارة محمود صالح في فن الحوار مقتصرة على من يحبهم فقط، أذكر أنه أجرى حواراً مع الروائي القديم ثروت أباظة، في الفترة التي كان قد رفع فيها عدداً من الدعاوى القضائية ضد الصحفيين والكتاب الذين يهاجمون مواقفه وكتاباته المتشنعة في تأييدها لنظام مبارك، وتمكن من سجن وتغريم بعضهم، ونجح محمود في حواره مع ثروت في توثيق الحالة العصبية المنفلتة التي كان أباظة يمر بها، وأذكر أن محمود قد حصل على شريط تسجيل لحوار قامت به مستشرقة لا أذكر جنسيتها بالتحديد مع ثروت، وسجلت له عشرات الشتائم التي كالها للكثير من الكتاب والأدباء، وسألني هل يمكن تقديمه لهيئة الدفاع عن الصحفيين الذين رفع ثروت عليهم قضايا، كدليل على أن ما كتبوه عنه لا يماثل ما تعود على أن يوجهه لهم من شتائم يعاقب عليها القانون، ولا أدري أين ذهب ذلك الشريط وما كان عليه من حكايات وآراء هي في النهاية صفحة من تاريخ الأدب المصري.
من الحوارات التي لا أنساها لمحمود صالح أيضاً حوار أجراه مع المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري عقب صدور موسوعته الشهيرة عن (اليهود واليهودية والصهيونية)، وكان المسيري مشهوراً في تلك الفترة بالمقالات المعقدة في صياغتها التي يكتبها في صحيفة (الحياة) اللندنية، لكن حواره مع محمود جاء رائقاً وأقرب إلى شخصيته الحقيقية كمتحدث شديد اللطف والبساطة وأستاذ يحلو لك أن تستمع إليه مهما اختلفت معه، لا زلت أذكر عنوان ذلك الحوار: "عبد الوهاب المسيري: أفنيت عمري كله لأثبت أن الإسرائيلي بشر ممكن جداً أن يسيل دمه"، كان المسيري يتحدث في الحوار عن ولعنا كعرب بنظرية المؤامرة التي تسبغ على الإسرائيليين والصهاينة صفات خارقة، تجعلنا مهزومين نفسياً أمامهم قبل أن نحاربهم، وأننا نسهم أكثر من إسرائيل أحياناً في ترويج أسطورة الدولة التي لا تُقهر، وقد دفعني الحوار لاقتناء النسخة المختصرة من الموسوعة والبدء في قراءتها، وهو نجاح للحوار والمحاور، أذكر أنه تحقق بعد حوار محمود مع الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذي دفع الكثيرين للتساؤل عن كتاباته التي كان قد توقف طبعها لسنوات، ثم أعادت نشرها الهيئة العامة لقصور الثقافة مشكورة.
للأسف، لم أقرأ شيئاً لمحمود صالح في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد سفري خارج مصر، ولم يجمعنا الفيس بوك لكي أعرف أخباره، لكنني تذكرته حين كنت أعد حلقة عن عمنا حجازي في برنامج (الموهوبون في الأرض)، وعدت إلى قراءة حواره الجميل معه والذي أظنه نشره بشكل موسع بعد ذلك في صحيفة (الكرامة) التي عمل فيها بعض الوقت، وحين سألت أحد أصدقاء محمود عن أراضيه، انبسطت حين قيل لي إنه وجد وظيفة ثابتة في صحيفة مستقلة ما، وأدركت أنه ربما وافق على الاستقرار في مكان لم يكن مثالياً بالنسبة له، لأنه تعب من طول الترحال بين الصحف، وتصورت أن ذلك سيكون ربما بداية لالتقاط أنفاسه، لعله يبدأ في تحقيق مشروعات كثيرة كانت في باله، على رأسها إنجاز كتابين عن أستاذيه حجازي وفؤاد قاعود، ومشروع آخر عن محمد منير الذي كان محمود مهتماً بالاشتباك النقدي مع مشواره بمحطاته المختلفة، وكان يحب تجربته مع الراحل أحمد منيب ويكره ما سواها، وقد كتب مرة يلومني أنا وكل الذين لا يزالون يحبون منير ويصادقونه ويكتبون عنه بإعجاب رغم أنه لم يعد يغني كما كان يغني مع أحمد منيب، وكان ما كتبه مثار جدل ضاحك بيننا.
الغريب أنني كنت قبل أيام أكتب تنظيرة غنائية عن واحدة من أجمل أغنيات منير وأقربها إلى قلبي، كتبها مجدي نجيب ولحّنها هاني شنودة، وتوقفت بالتحديد عند مقطع تقول فيه الأغنية: "غريبة غريبة.. إني أكون في لحظة مخيفة.. خبر كان وسط الصحيفة.. وفجأة أكون زي السطور المليانين.. بحاجات كتير منورين.. وأنطفي في الحال من غير سؤال"، وهي سطور تذكرتها أثناء تقليبي لمقلّب المواجع الأعظم الفيس بوك، حين قرأت خبر وفاة محمود صالح إثر حادث سيارة وقع خلال سفره إلى الزقازيق لزيارة أسرته، ثم تذكرتها وأنا أبحث عن المزيد من التفاصيل لأفاجأ بمن يكتب مطالباً بتكريم محمود بمنحه العضوية الشرفية لنقابة الصحفيين التي حصل عليها كثيرون من فئة النطيحة والمنخنقة والموقوذة والمتردية وما قرف السبع أن يأكله، وللأسف لم أفهم مما كُتِب عن الموضوع، لماذا لم يحصل محمود على عضوية النقابة؟ وقد كان يشغل منصباً تحريرياً في صحيفة مستقلة، لكنني أذكر أن غباء اللوائح وعمى قلب القوانين حرم الكثيرين مثله من حقوقهم المشروعة وأحلامهم البسيطة.
لا أعرف ما الذي انشغل محمود صالح به في السنوات الأخيرة، ولا ما فعلته الأيام بأحلامه ومشاريعه وأسلوبه في الكتابة التي أضاف إليها بالتأكيد الكثير غير ما حدثني عنه قبل أن تتفرق بنا السبل، لكنني أعرف أن ما جرى له في مشواره الصحفي خلال العقدين الماضيين، يذكرني بمآسٍ عاشها الكثير من الصحفيين والكتاب الذين كان لهم مستقبل واعد ومبشر، لكن فساد الحياة الصحفية والثقافية مزّق أحلامهم شر ممزّق. أتذكر الآن كتاباً بديعاً بعنوان (مراهنات الصبا) كان أستاذنا خيري شلبي ينشره على حلقات في صحيفة (الدستور) سنة 1997، تحدث فيه عن عدد من ضحايا فساد الحياة الصحفية والثقافية والفنية في أيام عم خيري التي يراها الكثيرون الآن ممثلة للزمن الجميل، وقد عرفت بعده المزيد من الضحايا في أيامي التي لم يكن يخطر على بالي ولا على بال أحد أن تجد من يحن إلى فسادها ويترحم على انحطاطها، عملاً ببيت الشعر قصير النَفَس: "رُبّ يومٍ كنت فيه.. فلما صرت في غيره بكيت عليه".
رحمة الله عليك يا محمود، لا أدري هل حققت شيئاً من أحلامك؟ كنت قلت لي إنك تحلم بكتابة رواية، لا أدري هل كتبت شيئاً منها؟ وهل ستجد من بين أصدقائك من يقوم بجمع ما كتبته ليضعه على صفحة إنترنت توثق لمشوارك مع الصحافة؟ أو يصدره في كتاب يضم بعض مقالاتك وحواراتك المتميزة؟ لا أدري هل حققت حلمك بأن تلتقي بمحمد منير لتكتب عنه كتاباً يتحدث عن علاقتك مع أغانيه وموسيقاه وتخبره بما أغضبك من اختياراته الفنية وتحولاته السياسية؟ لا أدري ما الذي فعلته بك الأيام على المستوى الشخصي، خصوصاً أنني حين رأيت صورة حديثة لك بدا لي منها أنك احتفظت فيها بعلاقتك الوطيدة بسوء التغذية، والتي قلت لك يوما ما إنها لن تنتهي إلا حين تتزوج، ولا أدري هل تزوجت من كنت تحبها أيام التقينا؟ أم أنك أحببت بعدها؟ ولا أدري هل نجح حبٌ ما أو شيءٌ ما في تهدئة روحك القلقة؟ لكن ما أدريه أن الله تعالى سيكون أرحم بك من عبيده.
في أمان الله يا جميل..