28 سبتمبر 2020
قبل الانفجار الأخير
ما كاد الموكب الحكومي الذي يترأسه رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله ورئيس المخابرات ماجد فرج يصل إلى قطاع غزة، حتى انفجرت به عبوة ناسفة ذات قوة تفجيرية محدودة، آثار الانفجار لم تتخطّ حاجز الإصابات الطفيفة لعدد من المرافقين، إلا أن تبعاته السياسية خطيرة للغاية، خاصة أنه وقع في وقت تترنّح فيه المصالحة الفلسطينية وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، على الرغم من الأخطار الوجودية المحدقة بقضية الفلسطينيين وحقوقهم في أرضهم.
منذ تشكّلها في تسعينيات القرن الماضي، بناء على تفاهمات مع إسرائيل وبرعاية الولايات المتحدة، ظلت السلطة الفلسطينية تلبس نفسها ثوب الشرعية، وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من التحولات التي ضربت المشهد الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة ظلت المنظومة الحاكمة على العقلية نفسها، من دون أدنى رغبة حتى في مواكبة التغيرات الناتجة، ومن دون اكتراث بحال فلسطينيي ما بعد "أوسلو".
منذ تشكّلها في تسعينيات القرن الماضي، بناء على تفاهمات مع إسرائيل وبرعاية الولايات المتحدة، ظلت السلطة الفلسطينية تلبس نفسها ثوب الشرعية، وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من التحولات التي ضربت المشهد الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة ظلت المنظومة الحاكمة على العقلية نفسها، من دون أدنى رغبة حتى في مواكبة التغيرات الناتجة، ومن دون اكتراث بحال فلسطينيي ما بعد "أوسلو".
العقلية الإقصائية السلطوية هي التي حكمت سياسات السلطة في تعاملها مع الفلسطينيين، أفراداً أو جماعات أو تيارات وأحزاباً، وكان لهذه السياسات الأثر البالغ في إبعاد السلطة عن الحاضنة الشعبية وجعلها في عزلة عن الموقف العام الفلسطيني؛ ودليل ذلك يكمن في الاختلاف الجوهري بين السلطة الفلسطينية وأطياف الشعب في أمر المقاومة والتنسيق الأمني والعلاقة مع الكيان الصهيوني.
أضف إلى ما سبق العقوبات الاقتصادية المفروضة من جانب سلطة رام الله على قطاع غزة، التي تسببت بأزمات مستعصية مسّت المواطنين وزادت من أعبائهم وحالهم المتردّي؛ وحتى في قضايا أخرى من قبيل الاحتقان الشعبي من بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية المتهم بتسريب أراضٍ للاحتلال وحوادث أخرى متقاطعة ومنفصلة، ساهمت في تشكّل الغضب الشعبي من القيادة الحالية التي تتهم في كثير من الأحيان بالتواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الرغم من ذلك كله، تعمي السلطة نفسها عن كل ما يجري، وتحاول جاهدة إنكار الغضب الشعبي وتحويره في ما تسميه "مؤامرة على القيادة، واستهداف الرئيس" وكثير من المصطلحات التي تقع في سياق القوالب الجاهزة التي تبني عليها عقلية الحكم العربي خطط دفاعها عن نفسها، بدلاً من الوقوف على مطالب الشعب والتعامل الجدي مع نداءات التغيير، أو حتى مجرد الاستماع لها.
بوضوح تجلّى لي ذلك وأنا أتابع فيديو مسجلاً للشهيد باسل الأعرج في لقاء تلفزيوني على إحدى القنوات المحسوبة على السلطة الفلسطينية، بدا الشاب المثقف شديد الحرص وهو يحذّر من مغبة استمرار النهج الذي تسير عليه منظومة السلطة الفلسطينية، مستذكراً أحداث الانقسام الفلسطيني المؤسفة في 2007، عن يمينه كان رجل المخابرات يداري ضحكة سخرية ولسان حاله يقول: هل يريد هذا الولد أن يعلمني، في حين هاجم المذيع الذي يفترض به الحياد باسل، تحت لافتة "المزايدة على الأجهزة الأمنية"، بعد سنوات على هذا الحوار الشهير استشهد باسل الأعرج في قلب المناطق المسيطر عليها من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تركت الشاب يلاقي مصيره، وفقاً لترتيبات التنسيق الأمني الذي انتقده باسل الأعرج في الحوار ذاته تحت سمع مدير جهاز المخابرات ماجد فرج.
مرة أخرى، يطل ماجد فرج مهتاجاً بعد دقائق فقط من انفجار غزة، توعّد وهدّد منفذي العملية التفجيرية، في تكريس حتمي للعقلية الأمنية في التعامل مع الأحداث الجارية، وخاصة مع غزة التي باتت هاجساً لدى أجهزة السلطة الفلسطينية، ليس لأنها تخضع لسيطرة الخصم السياسي، وإنما للحالة الشعبية التي صبغت هذه المدينة سنة وراء أخرى، حرباً إثر حرب، حصاراً وعقوبات، غزة المغدقة في رفضها ومقاومتها للاحتلال، استهدفت بشكل مباشر من قبل سلطة محمود عباس، وذلك حسب مسوغات واهية من قبيل "تركيع حركة حماس، واستعادة الشرعية" وغيرها من الألفاظ التي دأب على استخدامها السائرون على نهج "أوسلو" في محاولتهم لتسويق سياساتهم أمام أنصارهم، أو حتى أمام أنفسهم.
وبالعودة إلى الانفجار الذي عده كثيرون محاولة لاغتيال رامي الحمد الله، فإنه قد يؤشر إلى مزيد من أعمال العنف التي تستهدف السلطة، ولعل هناك أطرافاً تعمل في الخفاء لضرب القيادة الفلسطينية، مستغلة الغضب الشعبي الذي ساهمت السلطة في صناعته وتأجيجه.
أخطر ما في الأمر أن منظومة السلام الذليل "سلطة أوسلو"، بسياساتها المتماهية مع الاحتلال والمتناقضة مع الحالة الشعبية، تفسح المجال لمثل هذه المخططات المشبوهة، ومن هنا يجدر بماجد فرج تحديداً، ومن ورائه قيادات "فتح" والسلطة، الانتباه وتحسس الرؤوس بدلاً من استعراض قوة زائفة بتصريحات إعلامية وبيانات خطابية.
ولعلها دعوة أخيرة من بين شظايا الانفجار لتدارك الأمر، والعودة إلى الشعب الفلسطيني، وبرنامجه في المقاومة والنضال، كخطوة أولى لتلافي مصير يبدو قريباً، يلتف حول رأس السلطة.