04 مايو 2018
قصر قرطاج بين الأمس واليوم
محجوب أحمد قاهري (تونس)
هذا الحراك الحثيث في تونس داخل قصر قرطاج، والاستقالات المتتالية، وجديدها استقالة مدير ديوان الرئاسة، رضا بلحاج، تطرح سؤالاً: ماذا يخفي قصر قرطاج وراء أسواره العاليه؟ وكم من محنة سيحملها للشعب التونسي في قادم الأيام، خصوصاً، وأنه لم يعرف عنه سوى الصراعات الكبرى؟
والحقيقة أنه لم يعد خافياً على أحد أن قصر قرطاج هو محور كل ما حدث وسيحدث في هذا البلد الصغير. فلا الثورة ولا الدستور الجديد حدّا من سطوته على مفاصل القرار، على الرغم من أن النظام السياسي في تونس أقرب إلى البرلماني منه إلى الرئاسي. ولم يعد خافياً أيضا، بأن كلّ المحن التي تعرّض لها شعب تونس، كانت في مجملها مرتبطة بصراعات ما وراء جدران القصر.
تاريخيا، كان قصر قرطاج رمزا للاحتلال الفرنسي، فقد كان يحتوي على مقرّ المقيم العام الفرنسي، الموكول إليه مراقبة البايات، الذين تصوّر بعضهم أنهم يحكمون فعليّا، وأنهم إصلاحيون. وفي حقيقة الأمر، فهم ليسوا سوى موظّفين ساميين لدى السلطات الفرنسية، تحت إمرة المقيم العام. وقد نهب الفرنسيون أغلب ثروات تونس، وأحكموا قيودها من خلال معاهدات مكبّلة، على المدى البعيد، وضعوها بمفردهم، وأمضى عليها البايات ومن تبعهم من التونسيين في الحكم، مثل معاهدة استغلال الملح.
وكان لهذا القصر مفسدتان عظيمتان في العهد البورقيبي، أسّستا للعصر الديكتاتوري بامتياز. الأولى، أن بورقيبة جعل كلّ تونس تنتهي بانتهاء حدود القصر. فبعد أن انقلب على آخر البايات، انتقل من قصر المرسى للسكن والعمل في قصر قرطاج، أمر بتوسيع القصر إلى ما يناهز 40 هكتار من الأراضي، وكلّف المهندس أوليفييه كليمون كاكوب بإعادة تهيئته، وهو ما حصل على ثلاث مراحل، كما بلغ عدد العاملين فيه ما يناهز ثلاثة آلاف فرد، معظمهم أمنيون، وهو ما كلّف خزينة الدولة ما لا تطيقه، كما حوّل القصر إلى ثكنة عسكرية، لا يطأ أرضها الا المقربون. والمفسدة الثانية أن شيخوخة بورقيبة، الرجل المنعزل في حدود القصر، أثارت حوله حرب الخلافة. الحرب التي أطاحت كل المحيطين به، والذين تفننوا في طعن أنفسهم، إلى أن غدر بهم القادم من خارج القصر، المخلوع بن علي. وكان أوّل ما فعله، المخلوع اعتقال الرئيس الهرم، الملقى على فراش المرض، ومنع عنه حتى الزائرين، كما فكّك ما تبقّى من روابط بين الذين كانوا يحرسونه ويطمعون في كرسيه.
القصر نفسه، وبعد كل هذه المقدمات في العصر البورقيبي، حوّله المخلوع إلى ثكنة عسكرية تدار فيها كل أنواع المفاسد. وأبسط ما يذكر في هذا الصدد ما تمّ اكتشافه بعد ثورة 2011، حيث ظهرت في القصر أموال الرشاوي، والمخدرات، ناهيك على وجود سيدة تونس الأولى، التي قادت الطرابلسية إلى نهب أموال الشعب، وافتكاك عقاراتهم غصبا. وتدخلها السافر في تعيين الوزراء والسفراء والمسؤولين الكبار في الدولة. إذ كان "الحل والربط" في القصر، ولا غير القصر.
وبعد الثورة، لم يكن الحال أفضل بكثير، فالقصر لم يخرج عن سلطة وقواعد ماضيه، حيث كان المتنفذون أكبر من أيّ تغيير حقيقي. فكان أول من دخله بعد هروب المخلوع، فؤاد المبزع، الذي كان حلقة صلبة في النظام القديم بكل تفاصيله، وعلى الرغم من قصر فترة حكمه، إلا أنه شرّع الأبواب للقديم بأن يحكم السيطرة على القصر، بمن فيه، ووضع اليد على كل الحكومات القادمة، حتى ولو كانت منتخبة، وعلى كل مسارات السياسة ومآلاتها في تونس.
ثم جاء حكم الرئيس المنصف المرزوقي، الذي وجد نفسه وحيدا في قصر قرطاج، وليس حوله سوى مستشارين أوفياء قليلين، أمّا الآخرون فكانوا ورقة ضغط عليه ليغادر. وكانت محنة القصر في محنة الحكم، إذ استقال ثلاثة من حول الرئيس، من الوزن الثقيل، هم المستشار الإعلامي، أيوب المسعودي، والمكلف بالشؤون الخارجية، عبد الله الكحلاوي، والمكلف بالملفات الاقتصادية، شوقي عبيد. وكانت هذه الاستقالات توحي، آنذاك، بسقوط كل من في القصر، وهو ما حدث تحت الضربات الاحتجاجية والإرهابية المؤلمة والمتواصلة.
والمشهد حاليا، مع الرئيس الباجي القائد السبسي، يبدو أكثر حرجا من كل التجارب السابقة، إذ جمّع الرئيس تقريبا كل الأزمات والمحن التي مرّت بالقصر. فالرئيس لا يزال يمارس السلطة المطلقة للقصر، مع أن الدستور فصل نهائيا في نظام الحكم، برلماني. والرئيس جمع حوله طبقة سياسية متعطشة للحكم، وقد استقال من حوله إلى الآن ثلاثة، أيضا، وهم، محسن مرزوق، رافع بن عاشور ورضا بالحاج، وهؤلاء من أهم المنظرين والقادة لحزب نداء تونس، كما أن الرئيس في عمر متقدمة جداً، ويتصارع كثيرون حوله من أجل ميراث القصر، والورثة والطامعون كثر، ما يوحي بأزمة ومحنة أطول وأكثر.
والحقيقة أنه لم يعد خافياً على أحد أن قصر قرطاج هو محور كل ما حدث وسيحدث في هذا البلد الصغير. فلا الثورة ولا الدستور الجديد حدّا من سطوته على مفاصل القرار، على الرغم من أن النظام السياسي في تونس أقرب إلى البرلماني منه إلى الرئاسي. ولم يعد خافياً أيضا، بأن كلّ المحن التي تعرّض لها شعب تونس، كانت في مجملها مرتبطة بصراعات ما وراء جدران القصر.
تاريخيا، كان قصر قرطاج رمزا للاحتلال الفرنسي، فقد كان يحتوي على مقرّ المقيم العام الفرنسي، الموكول إليه مراقبة البايات، الذين تصوّر بعضهم أنهم يحكمون فعليّا، وأنهم إصلاحيون. وفي حقيقة الأمر، فهم ليسوا سوى موظّفين ساميين لدى السلطات الفرنسية، تحت إمرة المقيم العام. وقد نهب الفرنسيون أغلب ثروات تونس، وأحكموا قيودها من خلال معاهدات مكبّلة، على المدى البعيد، وضعوها بمفردهم، وأمضى عليها البايات ومن تبعهم من التونسيين في الحكم، مثل معاهدة استغلال الملح.
وكان لهذا القصر مفسدتان عظيمتان في العهد البورقيبي، أسّستا للعصر الديكتاتوري بامتياز. الأولى، أن بورقيبة جعل كلّ تونس تنتهي بانتهاء حدود القصر. فبعد أن انقلب على آخر البايات، انتقل من قصر المرسى للسكن والعمل في قصر قرطاج، أمر بتوسيع القصر إلى ما يناهز 40 هكتار من الأراضي، وكلّف المهندس أوليفييه كليمون كاكوب بإعادة تهيئته، وهو ما حصل على ثلاث مراحل، كما بلغ عدد العاملين فيه ما يناهز ثلاثة آلاف فرد، معظمهم أمنيون، وهو ما كلّف خزينة الدولة ما لا تطيقه، كما حوّل القصر إلى ثكنة عسكرية، لا يطأ أرضها الا المقربون. والمفسدة الثانية أن شيخوخة بورقيبة، الرجل المنعزل في حدود القصر، أثارت حوله حرب الخلافة. الحرب التي أطاحت كل المحيطين به، والذين تفننوا في طعن أنفسهم، إلى أن غدر بهم القادم من خارج القصر، المخلوع بن علي. وكان أوّل ما فعله، المخلوع اعتقال الرئيس الهرم، الملقى على فراش المرض، ومنع عنه حتى الزائرين، كما فكّك ما تبقّى من روابط بين الذين كانوا يحرسونه ويطمعون في كرسيه.
القصر نفسه، وبعد كل هذه المقدمات في العصر البورقيبي، حوّله المخلوع إلى ثكنة عسكرية تدار فيها كل أنواع المفاسد. وأبسط ما يذكر في هذا الصدد ما تمّ اكتشافه بعد ثورة 2011، حيث ظهرت في القصر أموال الرشاوي، والمخدرات، ناهيك على وجود سيدة تونس الأولى، التي قادت الطرابلسية إلى نهب أموال الشعب، وافتكاك عقاراتهم غصبا. وتدخلها السافر في تعيين الوزراء والسفراء والمسؤولين الكبار في الدولة. إذ كان "الحل والربط" في القصر، ولا غير القصر.
وبعد الثورة، لم يكن الحال أفضل بكثير، فالقصر لم يخرج عن سلطة وقواعد ماضيه، حيث كان المتنفذون أكبر من أيّ تغيير حقيقي. فكان أول من دخله بعد هروب المخلوع، فؤاد المبزع، الذي كان حلقة صلبة في النظام القديم بكل تفاصيله، وعلى الرغم من قصر فترة حكمه، إلا أنه شرّع الأبواب للقديم بأن يحكم السيطرة على القصر، بمن فيه، ووضع اليد على كل الحكومات القادمة، حتى ولو كانت منتخبة، وعلى كل مسارات السياسة ومآلاتها في تونس.
ثم جاء حكم الرئيس المنصف المرزوقي، الذي وجد نفسه وحيدا في قصر قرطاج، وليس حوله سوى مستشارين أوفياء قليلين، أمّا الآخرون فكانوا ورقة ضغط عليه ليغادر. وكانت محنة القصر في محنة الحكم، إذ استقال ثلاثة من حول الرئيس، من الوزن الثقيل، هم المستشار الإعلامي، أيوب المسعودي، والمكلف بالشؤون الخارجية، عبد الله الكحلاوي، والمكلف بالملفات الاقتصادية، شوقي عبيد. وكانت هذه الاستقالات توحي، آنذاك، بسقوط كل من في القصر، وهو ما حدث تحت الضربات الاحتجاجية والإرهابية المؤلمة والمتواصلة.
والمشهد حاليا، مع الرئيس الباجي القائد السبسي، يبدو أكثر حرجا من كل التجارب السابقة، إذ جمّع الرئيس تقريبا كل الأزمات والمحن التي مرّت بالقصر. فالرئيس لا يزال يمارس السلطة المطلقة للقصر، مع أن الدستور فصل نهائيا في نظام الحكم، برلماني. والرئيس جمع حوله طبقة سياسية متعطشة للحكم، وقد استقال من حوله إلى الآن ثلاثة، أيضا، وهم، محسن مرزوق، رافع بن عاشور ورضا بالحاج، وهؤلاء من أهم المنظرين والقادة لحزب نداء تونس، كما أن الرئيس في عمر متقدمة جداً، ويتصارع كثيرون حوله من أجل ميراث القصر، والورثة والطامعون كثر، ما يوحي بأزمة ومحنة أطول وأكثر.
مقالات أخرى
09 ابريل 2018
29 مارس 2018
23 مارس 2018