من المفارقات في مصر أن يتحول القاضي المستشار إلى جامع قمامة بين ليلة وضحاها، بسبب موقفٍ مبدئي انتصر فيه لما يراه حقًا، فانتقل من أعظم المهن إلى أوضعها في عيون الناس. لكن من قال إن قلب هذا الفارس متعلق بعيون الناس!
عزاؤه أنّ قلبه بقي طاهرًا، رغم جبال القمامة حوله، وكما قال أحدهم: "قد يتغير الفرس، لكن قلب الفارس لا يتغير".
تمر في أحد شوارع مصر، فيطالعك إعلان ورقي بخط اليد على واجهة عمارة "شقة للبيع، مساحتها 160 مترا، كاملة التشطيب، دور ثانٍ علوي يمين، الشقة ملك المستشار أيمن الورداني".
لكن مهلاً، هناك شيء ما غير عادي!
إنه هو المستشار أيمن الورداني، رئيس محكمة استئناف القاهرة، المفصول عقب الانقلاب العسكري، لمعارضته مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية.
إنه لا يبيع شقته حتى ينتقل إلى شقة أفخم. أعرف ذلك، لأنني تشرفت بمقابلة المستشار الورداني في جلسة خاصة جمعتني به، وحين سألته عن الإعلان، قال لي سابحًا في ذكرياته: "هذه شقتي التي ورثتها عن والدي رحمه الله، عرضتها للبيع بعد إيقافي عن العمل ووقْف راتبي".
احتسى رشفة من قهوته السادة السوداء، وليت سواد حال القضاء في مصر جميل كسواد قهوة مستشارنا، ثم قال ضاحكًا بمرارة: "العجيب أنه لم يتقدم أحد للشراء، خشية التحفظ على أموالي، وأقمت في ذلك الوقت في منزل الأسرة في قريتي البهايتة، مركز ميت غمر، في دقهلية".
بنبرة حادة وعيون ملؤها العزة والفخر أضاف: "لم نكن تُجارًا ولا أصحاب بيزنس، فقط أصحاب مبادئ، نقف مع الحق وندور معه إلى حيث يدور".
تابع "بعد فصْلي أنا ومجموعة من المستشارين بسبب بيان رابعة العدوية، رفضت نقابة المحامين قيدنا بعد تعليمات من المستشار أحمد الزند ومجلس القضاء الأعلى، كما رفضتني الجامعات المصرية التي كنت أُلقي فيها محاضرات، ومُنعت من السفر ومغادرة البلاد".
ويضيف الورداني "هو الفراق إذًا... قبل أن أودع بيت أبي في قريتنا، تركت على واجهته عبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل"... ثم غادرته في صمت إلى أرض الله الواسعة!
نعم أرض الله واسعة، ولكن أحلام الرجال تضيق! ويوضح "بعد المغادرة لم يتوقف التنكيل بنا. وكانت الصدمة حين رصدتنا الفلول ممن يعملون في القضاء في دول عربية، وأوعزوا إلى القيادات بعدم قبولنا قضاةً في محاكمها، حتى نقبل بأدنى العروض كمحامين بالقطعة، أو خبراء قانونيين في بعض المصالح! ولكن تبقى أرض الله واسعة".
ويستكمل الورداني حديثه: "ليس هذا حالي فقط، بل أنا أخفّ الشُّرفاء الذين فُصلوا وأُوقفت رواتبهم ابتلاءً، بعضهم ما زال يتجرع كؤوس الصبر في مصر. أعرف أحد المستشارين يعمل في مشروع لجمع القمامة، يجمع الكراتين الفارغة، ويأخذ 100 جنيه مقابل جمعه 100 كرتونة، وكلما زاد عدد الكراتين زاد المقابل المادي".
سقطت عبراته الحارّة على وجنتيه، بينما يصف حال ذلك المستشار!
تابع، مقاومًا عبراته: "بعض المستشارين الذين فُصلوا من عملهم، ليس لديهم ما ينفقونه على أسرهم أو يُغطي نفقاتهم الشخصية، أحدهم يعمل في مجال التسويق الإلكتروني من المنزل، لتوفير ثمن الدواء لابنته المريضة، ولا يجد عملاً آخر غير هذا، بعد رفْض نقابة المحامين قيده في النقابة، لتمنعه من ممارسة مهنة المحاماة".
ويؤكد أن "هناك قاضيا آخر حَوَّل سيارته الخاصة لتاكسي، وآخر فتح محلاً للبقالة بعد أن أُوصدت في وجهه الأبواب، سواء ممارسة مهنة المحاماة، أو العمل كمستشار قانوني في شركة خاصة".
يختتم المستشار الورداني حديثه قائلاً بقلب الفارس: "والله الذي لا إله إلا هو، لو عادت بي الأيام لفعلت مثل الذي فعلت، لست نادمًا، بل فخورا وسعيدا وشاكرا لله، أن جعلني مع الحق وأهله"، ثم يقول "الحمد لله الذي نجانا من فرعون وعمله، ومن القوم الظالمين".