في البداية، وبعد انتهاء اجتماع مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، بدا أن إسقاط طائرة "الدرون" الأميركية، قد حسم الجدل بشأن الرد العسكري. كلام الرئيس ترامب بأن إيران قد "ارتكبت خطأً جسيماً" لا يحتمل غير هذا التفسير. وساد الاعتقاد في ضوء تلميحات البيت الأبيض والبنتاغون، بأن الولايات المتحدة تتجه نحو ضربة "محدودة ومحسوبة" في حجمها وبأهدافها العسكرية، بحيث تبقى الأمور تحت السيطرة ولا تؤدي إلى انفلات حبل الردود المفتوحة على حرب واسعة.
لكن بعد نحو ساعة تغيرت النغمة، وتعمّد الرئيس منح الأسباب التخفيفية للحادثة بقوله إنها ربما تكون قد وقعت بنتيجة "خطأ مسؤول غبي" في الموقع الصاروخي الإيراني الذي أسقط الطائرة، أي بدون علم طهران. تعليل أوحى بواحد من اثنين: إما برغبة في تبريد الأزمة إثر صرف النظر عن الخيار العسكري، جرياً على عادة الرئيس في الانقلاب على قراراته لحسابات لا يشاركه فيها أحد، وإما بقصد التمويه والتشويش لإرباك الجانب الإيراني.
في النهاية، تبيّن أن كفة الاحتمال الأول كانت راجحة. فبحسب "نيويورك تايمز"، تراجع الرئيس ترامب فجأة عن أوامره وطلب عودة الطائرات إلى قواعدها بعد أن كانت في طريقها إلى أهدافها، فجر الجمعة بتوقيت إيران. وكذلك أمر بوقف تحرك البوارج البحرية، للتموضع في مواقعها المناسبة للمشاركة في العملية. الجريدة لم تذكر السبب في هذا التغيير المفاجئ، كما لم تذكر معلوماتها ما إذا كان التراجع عن المهمة نهائياً أم أنه جرى تأجيله فقط.
تفسيرات عديدة أعطيت لهذا التطور؛ منها أن الرئيس سمع بالنهايةلرئيس هيئة الأركان الجنرال جوزف دانفورد، الذي تدخّل ونهى عن مواصلة العملية، حسب الجنرال المتقاعد باري ماكفري؛ ومنها أن الرئيس لم يكن في هذا الوارد من الأساس وإلا لكان أعطى الأوامر "بضرب بطارية الصواريخ التي قصفت الطائرة على الفور والتي تعرف القوات الأميركية هناك موقعها"، حسب الكولونيل المتقاعد جاك جاكوبس.
لكن حيثية إسقاط الطائرة "فوق المياه الدولية"، وفق رواية البنتاغون، عززت قرار الرد الذي حمل لواءه الثنائي مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، علمًا أن موقع الطائرة لحظة قصفها ما زال موضع تساؤل، وخاصة أن الإدارة الأميركية لم تقدم بعد إلى الأمم المتحدة الأدلة الموثقة التي تثبت وجودها خارج المدى الجوي الإيراني. ثم جاء صقور الكونغرس الذين التقوا بالرئيس اليوم، مثل السيناتور ليندسي غراهام، ودفعوا باتجاه المضي في الخيار العسكري، ولو أن الرئيس سمع من الآخرين، خاصة الديمقراطيين، تحذيرات وتحفظات حول مثل هذا القرار.
قرار الإدارة الخارجي إجمالاً، محكوم بالوصول إلى مثل هذا المأزق. فريقه يعاني من الشواغر. لا وزير أصيلًا في الدفاع منذ ستة أشهر. ولا سفير أصيلًا في الأمم المتحدة. ومن ثم الأمر متروك لحدس الرئيس وللثنائي بولتون وبومبيو، وبدون تنسيق مع باقي الوزارات والوكالات المعنية بصياغة خيارات السياسة الخارجية لعرضها على الرئيس. لذا انتهى أكثر من ملف إلى الفشل، من كوريا الشمالية إلى فنزويلا وإيران التي تمسك الآن بزمام المبادرة في مواجهة مفتوحة على المجهول. وفي هذا السياق، جاءت زيارة بولتون المفاجئة لإسرائيل لتطرح المزيد من علامات الاستفهام حول علاقتها بالموضوع، واحتمال اضطلاعها بدور ما في هذه الأزمة.