19 أكتوبر 2019
قضية اللاجئين.. تقدّم أوروبا القيم
هل تراجع نفوذ اليمين الأوروبي وتأثيره؟ سؤال قد يبدو غير وجيه، في وقت يتصلب فيه عود الأحزاب اليمينية المتطرفة في دول الاتحاد الأوروبي، لكن التحرك الأوروبي حيال التدفق المتواصل للاجئين، لا سيما السوريين ومآسيهم في البحر المتوسط، ومعاناتهم في البر (في البلقان وفي تراب الاتحاد الأوروبي)، يبرر مثل هذا السؤال.
التحرك الأوروبي والتضامن على مستوى الاتحاد، على الرغم من تصلب مواقف بعض الدول الأعضاء، وقبول دول بفكرة الحصص الإجبارية، أي تقاسم أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى أوروبا بين الدول الأعضاء لتقاسم الأعباء، على الرغم من أنها كانت رافضة لها تماماً حتى الأسابيع الأخيرة، دلالة على توجه مثير للانتباه. فعادةً، تتردد الحكومات الغربية في اتخاذ قرارات حازمة من هذا النوع، لما يتعلق الأمر بمثل هذه المسائل، خوفاً من أن يستغلها التيار اليميني المتطرف، ليحصد مزيداً من الشعبية، سعياً إلى الاقتراب أكثر فأكثر من الحكم. بل جعل هذا التوجس الدائم حكومات أوروبية تتشدد في بعض سياساتها، حتى انتهى الأمر ببعضها إلى تبني خطاب اليمين المتطرف، حيال بعض القضايا الإشكالية، مثل الهجرة.
بغض النظر عن مصالح الدول الأوروبية واستراتيجياتها الوطنية والدولية، ما يحدث الآن في الاتحاد الأوروبي فصل في غاية من الأهمية من فصول المواجهة بين أوروبا القيم وأوروبا الانغلاق ورفض الآخر (غير الأوروبي). تعودنا، في العقدين الأخيرين، على تأثير اليمين المتطرف في تحديد بعض جوانب الأجندة السياسية ومضامينها، وتوجيه النقاش داخل الدول الأعضاء، وعلى مستوى الاتحاد، ضاغطاً باستمرار على حكوماتها. صحيح أن جزءاً كبيراً من المنخرطين والمتعاطفين مع الأحزاب اليمينية يرفضون فكرة استضافة أعداد هائلة من اللاجئين، ناهيك عن المنخرطين والمتعاطفين مع اليمين المتطرف، إلا أن حكومات أوروبية يمينية (مثل الحكومة الألمانية) ويسارية (مثل الحكومة الفرنسية) تجاوزت "العقبة" اليمينية المتطرفة، محدثة ما يشبه قطيعة سياسية في تعاملها مع اليمين المتطرف. فهي اتخذت موقفاً سياسياً على أساس قيم تتناقض تماماً والمنظومة التي يقوم عليها اليمين المتطرف. وكأن حسابات الانتخابات سقطت من المعادلة السياسية، ولو إلى حين. بل دأب الخطاب الرسمي، سواء في ألمانيا أو فرنسا، في الأسابيع الأخيرة، على التشديد على واجب استقبال اللاجئين واجباً إنسانياً عالمياً. وهذا هو الشق الأول من الصراع بين أوروبا القيم والتسامح وأوروبا رفض الآخر، فالأخيرة تراجعت فيما تقدمت الأولى في جولة من أهم جولات الصراع الدائر في القارة العجوز. ويكمن هذا الشق في فكرة/واجب استقبال اللاجئين من عدمه. والغلبة الآن للمدافعين عن هذا الواجب الذي رفع إلى مصاف قيمة مؤسسة للديمقراطية في بعض دول الاتحاد.
في إطار هذا الصراع بين منظومتين قيميتين. الأولى متفتحة ومتسامحة، والثانية منغلقة وغير متسامحة، توظف أطراف يمينية وغير يمينية العامل الاقتصادي لنقل النقاش من الدائرة القيمية (ورفض الهجرة عموماً) إلى الدائرة الاقتصادية، متذرعة بالأزمة وشح الموارد المالية والبطالة... وهي حجج تلقى آذاناً صاغية لدى الرأي العام، لا سيما لدى الفئات الشعبية الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية، فهؤلاء يقولون كيف يُطلب منهم التضحيات، لإنجاح الإصلاحات واستعادة دينامية النمور في الوقت الذي تُصرف فيه أموال على الأجانب. يقر المدافعون عن حق اللجوء بهذه الحجج، ويقولون بضرورة استضافة اللاجئين وفق قواعد محددة، وفي ظروف لائقة، لكنهم يرفضون التعارض بين المستلزم الإنساني-الأخلاقي والمستلزم الاقتصادي.
يكمن الشق الثاني في الصراع بين دعاة الانتقائية والمعارضين لها. يمثل الفئة الأولى بعض دول أوروبا الشرقية، لا سيما المجر (يتقدم فيها اليمين المتطرف بقوة) التي قال رئيس حكومتها إن بلده ترفض استضافة لاجئين مسلمين، ما أثار ردود فعل في أوساط أوروبية. أما الفئة الثانية فتمثلها دول أوروبا الغربية، مثل فرنسا التي قال رئيس حكومتها إنه لا يمكن اختيار اللاجئين على أساس انتمائهم الديني، رداً على الحكومة المجرية، وأيضاً على رئيسي بلدتين فرنسيتين، قبل استضافة اللاجئين المسيحيين فقط، ورفض المسلمين إجراء احترازياً (بدعوى الإرهاب). صحيح أن هناك تحركاً سياسياً وجمعوياً (على مستوى الجمعيات الأهلية) في فرنسا لاستقبال اللاجئين العرب المسيحيين (الذين فرّوا من جحيم داعش والحرب في سورية)، إلا أن السياسة الحكومية الفرنسية لا تقوم على التمييز على أساس الانتماء الديني.
ربما هذا الشق من الصراع هو أهم من الأول، لأنه يمس الأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي ومنظومته القيمية التي ترفض أي تمييز. والواضح أن أوروبا منقسمة على نفسها، فشرقها محافظ وغير متسامح في جله، بينما غربها غير محافظ ومتسامح في جله. وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في مهمته القيمية الاستراتيجية، قبل التوسع شرقاً في 2004. فهو يقوم على فكرة أساسية، هي نقل المعايير والقيم الديمقراطية والتسامحية نحو أعضائه الجدد. والقاعدة أن هؤلاء لا يقبلون فقط بهذه المعايير والقيم، بل يطبقونه في الحياة اليومية. لكن الواضح أن أعضاء شرقيين جدداً لا يطبقون بعض تلك القيم كما ينبغي، ولا يترددون في تبني سياسية تمييزية علناً. فأن تقول حكومة بلد عضو في الاتحاد الأوروبي إنها لا ترغب في استقبال اللاجئين من المسلمين في وقتنا هذا يعني أن أوروبا تعاني شرخاً قيمياً. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا الموقف الألماني المتضامن مع اللاجئين، لما تحرّكت الدول الأخرى. ومن هذا المنظور، كان لموقف ألمانيا مفعول لعبة الدومينو. فبمجرد إعلانها نيتها استضافة اللاجئين السوريين، حتى سارعت دول أخرى، مثل فرنسا وحتى بريطانيا المترددة (إن لم نقل الرافضة) إلى التعبير عن تضامنها، وعزمها تحمل نصيبها من العبء الإنساني. هكذا أصبحت ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية والأخلاقية، في الآن نفسه.
بغض النظر عن مصالح الدول الأوروبية واستراتيجياتها الوطنية والدولية، ما يحدث الآن في الاتحاد الأوروبي فصل في غاية من الأهمية من فصول المواجهة بين أوروبا القيم وأوروبا الانغلاق ورفض الآخر (غير الأوروبي). تعودنا، في العقدين الأخيرين، على تأثير اليمين المتطرف في تحديد بعض جوانب الأجندة السياسية ومضامينها، وتوجيه النقاش داخل الدول الأعضاء، وعلى مستوى الاتحاد، ضاغطاً باستمرار على حكوماتها. صحيح أن جزءاً كبيراً من المنخرطين والمتعاطفين مع الأحزاب اليمينية يرفضون فكرة استضافة أعداد هائلة من اللاجئين، ناهيك عن المنخرطين والمتعاطفين مع اليمين المتطرف، إلا أن حكومات أوروبية يمينية (مثل الحكومة الألمانية) ويسارية (مثل الحكومة الفرنسية) تجاوزت "العقبة" اليمينية المتطرفة، محدثة ما يشبه قطيعة سياسية في تعاملها مع اليمين المتطرف. فهي اتخذت موقفاً سياسياً على أساس قيم تتناقض تماماً والمنظومة التي يقوم عليها اليمين المتطرف. وكأن حسابات الانتخابات سقطت من المعادلة السياسية، ولو إلى حين. بل دأب الخطاب الرسمي، سواء في ألمانيا أو فرنسا، في الأسابيع الأخيرة، على التشديد على واجب استقبال اللاجئين واجباً إنسانياً عالمياً. وهذا هو الشق الأول من الصراع بين أوروبا القيم والتسامح وأوروبا رفض الآخر، فالأخيرة تراجعت فيما تقدمت الأولى في جولة من أهم جولات الصراع الدائر في القارة العجوز. ويكمن هذا الشق في فكرة/واجب استقبال اللاجئين من عدمه. والغلبة الآن للمدافعين عن هذا الواجب الذي رفع إلى مصاف قيمة مؤسسة للديمقراطية في بعض دول الاتحاد.
في إطار هذا الصراع بين منظومتين قيميتين. الأولى متفتحة ومتسامحة، والثانية منغلقة وغير متسامحة، توظف أطراف يمينية وغير يمينية العامل الاقتصادي لنقل النقاش من الدائرة القيمية (ورفض الهجرة عموماً) إلى الدائرة الاقتصادية، متذرعة بالأزمة وشح الموارد المالية والبطالة... وهي حجج تلقى آذاناً صاغية لدى الرأي العام، لا سيما لدى الفئات الشعبية الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية، فهؤلاء يقولون كيف يُطلب منهم التضحيات، لإنجاح الإصلاحات واستعادة دينامية النمور في الوقت الذي تُصرف فيه أموال على الأجانب. يقر المدافعون عن حق اللجوء بهذه الحجج، ويقولون بضرورة استضافة اللاجئين وفق قواعد محددة، وفي ظروف لائقة، لكنهم يرفضون التعارض بين المستلزم الإنساني-الأخلاقي والمستلزم الاقتصادي.
يكمن الشق الثاني في الصراع بين دعاة الانتقائية والمعارضين لها. يمثل الفئة الأولى بعض دول أوروبا الشرقية، لا سيما المجر (يتقدم فيها اليمين المتطرف بقوة) التي قال رئيس حكومتها إن بلده ترفض استضافة لاجئين مسلمين، ما أثار ردود فعل في أوساط أوروبية. أما الفئة الثانية فتمثلها دول أوروبا الغربية، مثل فرنسا التي قال رئيس حكومتها إنه لا يمكن اختيار اللاجئين على أساس انتمائهم الديني، رداً على الحكومة المجرية، وأيضاً على رئيسي بلدتين فرنسيتين، قبل استضافة اللاجئين المسيحيين فقط، ورفض المسلمين إجراء احترازياً (بدعوى الإرهاب). صحيح أن هناك تحركاً سياسياً وجمعوياً (على مستوى الجمعيات الأهلية) في فرنسا لاستقبال اللاجئين العرب المسيحيين (الذين فرّوا من جحيم داعش والحرب في سورية)، إلا أن السياسة الحكومية الفرنسية لا تقوم على التمييز على أساس الانتماء الديني.
ربما هذا الشق من الصراع هو أهم من الأول، لأنه يمس الأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي ومنظومته القيمية التي ترفض أي تمييز. والواضح أن أوروبا منقسمة على نفسها، فشرقها محافظ وغير متسامح في جله، بينما غربها غير محافظ ومتسامح في جله. وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في مهمته القيمية الاستراتيجية، قبل التوسع شرقاً في 2004. فهو يقوم على فكرة أساسية، هي نقل المعايير والقيم الديمقراطية والتسامحية نحو أعضائه الجدد. والقاعدة أن هؤلاء لا يقبلون فقط بهذه المعايير والقيم، بل يطبقونه في الحياة اليومية. لكن الواضح أن أعضاء شرقيين جدداً لا يطبقون بعض تلك القيم كما ينبغي، ولا يترددون في تبني سياسية تمييزية علناً. فأن تقول حكومة بلد عضو في الاتحاد الأوروبي إنها لا ترغب في استقبال اللاجئين من المسلمين في وقتنا هذا يعني أن أوروبا تعاني شرخاً قيمياً. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا الموقف الألماني المتضامن مع اللاجئين، لما تحرّكت الدول الأخرى. ومن هذا المنظور، كان لموقف ألمانيا مفعول لعبة الدومينو. فبمجرد إعلانها نيتها استضافة اللاجئين السوريين، حتى سارعت دول أخرى، مثل فرنسا وحتى بريطانيا المترددة (إن لم نقل الرافضة) إلى التعبير عن تضامنها، وعزمها تحمل نصيبها من العبء الإنساني. هكذا أصبحت ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية والأخلاقية، في الآن نفسه.