مع تفعيل بريطانيا أمس الأربعاء للفصل 50 من اتفاق لشبونة، تكون لندن وبروكسل، قد باشرتا في مسيرة "طلاق" قد تمتد إلى عامين حدا أدنى، وربما تمتد أبعد من ذلك، إذا ما تعقدت المفاوضات بين الجانبين. ولا يتوقع المراقبون أن تبدأ المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشكل فوري، كما قال رئيس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك، على موقع "تويتر"، قبل أيام. وأعلن توسك، بعد تسلمه من مبعوث بريطانيا لدى الاتحاد الأوروبي، تيم بارو، رسالة رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي التي تطلب فيها الانفصال، أن الاتحاد يفتقد بريطانيا من الآن، مضيفاً "لا يمكن القول إنه يوم سعيد". وتميل مصادر في الاتحاد إلى عدم إطلاق المحادثات الفعلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلا بعد ستة إلى ثمانية أسابيع، إذ يتعين على قادة دول الاتحاد عقد قمة لإقرار القواعد التوجيهية للمفاوضات في اجتماع يرجح مسؤولون أن يعقد في مايو/أيار المقبل. بل ترجح أوساط أوروبية إمكانية تأجيل بدء المفاوضات مع بريطانيا إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 23 إبريل/نيسان المقبل، وربما إلى ما بعد الانتخابات الألمانية في سبتمبر/أيلول المقبل.
وأعلنت تيريزا ماي، أمام البرلمان، أن بريطانيا بدأت رسمياً عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقالت "عملية المادة 50 جارية، وستترك المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي تماشياً مع رغبة الشعب البريطاني"، موضحة أن بريطانيا ستسعى للاتفاق على شراكتها في المستقبل مع التكتل. ودعت نواب وشعب بريطانيا إلى "الوحدة" للتوصل إلى "أفضل اتفاق ممكن" مع الاتحاد الأوروبي. وقالت "آن الأوان لأن نتحد ونعمل للتوصل إلى أفضل اتفاق ممكن"، مضيفة إنها "لحظة تاريخية"، وأنه لم يعد من الممكن الآن "العودة إلى الوراء". وأشارت ماي إلى أن مصير المواطنين الأوروبيين في بريطانيا هو "أولوية". وأضافت "نسعى لضمان حقوق المواطنين الأوروبيين الذين يقيمون في بريطانيا بأسرع وقت ممكن. سنعطي هذا الأمر أولوية". وأقرت ماي بأنه سيكون هناك "عواقب"، خصوصاً اقتصادية على البلاد، وهو ما ظهر بمنع المفوضية الأوروبية مشروع الاندماج الضخم بين بورصتي لندن وفرانكفورت. وتابعت "اخترت أن أؤمن ببريطانيا وبفكرة أن أياماً أفضل أمامنا"، مشددة على "الفرصة الوحيدة" التي يمثلها خروج البلاد من الاتحاد. ووعدت بأن تبقى بريطانيا "أفضل صديق" للاتحاد الأوروبي.
ماذا تريد بريطانيا
يمكن تلمس الخطوط العريضة التي ستسير عليها قاطرة المفاوضين البريطانيين، بالعودة إلى وثيقتين أعلنت عنهما الحكومة البريطانية في يناير/كانون الثاني الماضي. وحددت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي في خطاب، في لانكستر هاوس في 17 يناير، استراتيجية بريطانيا حول "بريكست"، والعلاقة المستقبلية مع الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمبادئ أساسية، عنوانها الرئيس أن المملكة المتحدة تسعى، بعد خروج المملكة من الاتحاد، إلى اتفاق بناء يكون لمصلحة الطرفين. لكنها أكدت بوضوح أن ما تقترحه لا يعني استمرار عضوية بريطانيا في السوق الموحدة، والوحدة الجمركية الأوروبية، ومحكمة العدل الأوروبية. وفي المقابل لم تشأ رئيسة الوزراء البريطانية إعلان طلاق تام أو قطيعة كاملة مع أوروبا، إذ رسمت حدود العلاقة مع جيران بريطانيا الأوروبيين، باستمرار التعاون معهم في مجالات التبادل التجاري والتعرفة الجمركية ومكافحة الجريمة ومحاربة الإرهاب، وتنسيق السياسات الخارجية، والتعاون في المجالين، الدفاعي والأمني. وحرصت ماي على طمأنة الأوروبيين بأن "بريطانيا تريد نجاح الاتحاد الأوروبي، ولا ترغب في تفككه".
أما الوثيقة الثانية التي تضمنت الرؤية البريطانية لمستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فقد أعلنت عنها الحكومة البريطانية، في يناير/كانون الثاني، في "كتاب أبيض" بعنوان "خروج المملكة المتحدة والشراكة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي". وجاء في "الكتاب الأبيض" تفاصيل الخطة "الإيجابية والبناءة" التي تقوم بالأساس على الشراكة في المصالح المتبادلة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقدمت الوثيقة بالتفصيل المبادئ الـ12 التي ستحكم مسار المفاوضات البريطانية الأوروبية، وتحدد مستقبل العلاقات بين لندن وبروكسل، على قاعدة المصلحة المتبادلة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بالحفاظ على تجارة أكثر حرية، وتبادلاً تجارياً أكثر نشاطاً في مجالات السلع والخدمات بعد خروج المملكة المتحدة. وأشارت الوثيقة إلى أنه "سيكون من مصلحة الجانبين بناء شراكة استراتيجية جديدة، مع اتفاق طموح وشامل في مجال التجارة واتفاق جمركي جديد". وقال نص "الكتاب الأبيض" إن "الأمر لا يتعلق بعمل نظامين مختلفين، بل العثور على أفضل طريقة تمكن شركات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي من الاستمرار بالعمل معاً في الأسواق بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". أضف إلى ذلك، ما أكدته لندن، في وقت مُبكر، بعد استفتاء "بريكسيت" في يونيو/حزيران 2016، عندما طالبت الاتحاد الأوروبي بالعمل لإيجاد صيغة "اتفاق خاص" يُناسب بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ورفض لندن لأي "نموذج جاهز" يحدد العلاقة المستقبلية بين الطرفين، من قبيل "النموذج النرويجي" أو "النموذج السويسري" أو "النموذج التركي". وحددت ماي، في خطاب لانكستر هاوس، ملامح النموذج الذي تسعى إليه، بالقول "نحن نبحث عن شراكة متساوية وقوية بين بريطانيا أكثر عالمية، وأصدقائنا في الاتحاد الأوروبي".
ماذا تريد أوروبا؟
حدد رئيس مجموعة العمل المكلفة بالتفاوض مع بريطانيا من قبل المفوضية الأوروبية، ميشيل بارنييه، أربع نقاط توافق عليها مع البرلمان الأوروبي والدول الأعضاء، كأساس للمفاوضات مع بريطانيا. أول هذه النقاط، تتعلق بوحدة مواقف الدول والمؤسسات الأوروبية حيال بريطانيا. أما الثانية، فتركز على أن عضوية الاتحاد تفترض أن يكون للأعضاء حقوق وواجبات، و"من هنا لا يمكن للدول غير الأعضاء التمتع بنفس الحقوق والواجبات"، أي أن مسألة الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة، وهي النقطة الأساسية الثالثة، التي سيتم التفاوض عليها، تترافق بقبول الحريات الأربع، وهي حركة الأفراد والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال، الأمر الذي لا يمكن تجزئته. وأخيراً أن "لا مفاوضات قبل تقديم الإخطار الرسمي من قبل لندن". ومما قاله بارنييه، كانت هناك إشارة هامة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خلال المفاوضات شكل العلاقة المستقبلية مع بريطانيا بوصفها دولة مجاورة، وهو أمر منصوص عنه في المادة 50 أيضاً. وفي هذه الإشارة طمأنة للندن، التي توعدتها بعض الدول الأوروبية بمفاوضات شاقة، لتجعل من مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي درساً "مؤلماً جداً"، و"عبرة لمن يرغب في المغادرة مستقبلا"، كما قال رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، بعد قمة براتيسلافا، في سبتمبر/أيلول الماضي.
وأعلن المجلس الأوروبي، في بيان أمس الأربعاء، أن الاتحاد الأوروبي سيعمل "بشكل موحد وسيحافظ على مصالحه" في المفاوضات مع بريطانيا. وقالت الدول الـ27 في الاتحاد "نأسف لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، لكننا مستعدون لهذا الإجراء الذي سيكون علينا اتباعه من الآن وصاعداً". وأوضح البيان، الذي نشرته رئاسة المجلس الأوروبي، "في هذه المفاوضات سيعمل الاتحاد الأوروبي بشكل موحد، وسيحافظ على مصالحه". وأضاف "أولويتنا الرئيسية هي التقليل من شأن الارتياب لدى رعايانا والمؤسسات والدول الاعضاء والناجم عن قرار بريطانيا". وأكدت دول الاتحاد أنها ستبدأ "بالتركيز على العناصر الأساسية لانسحاب منظم"، فيما تريد لندن المضي بسرعة للبدء بمفاوضات حول مستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً على الصعيد التجاري.