قهوة عربية في إسطنبول
ميخائيل سعد
القهوة التركية
لم يكن عندنا خيارات في سورية؛ فمع تعميم "مراويل الكاكي" المدرسية، في المرحلة الابتدائية، وبدلات الفتوة الكاكي في المرحلة الثانوية، والمرحلة الجامعية، ومع سيادة الحزب الواحد والجيش العقائدي الواحد، والرئيس الأبدي الواحد، كانت القهوة الموجودة في سورية واحدة أيضاً، وعندما وصلت إلى الغرب وعرفت أن هناك عشرات الأنواع من القهوة، من أشهرها العربية، أصبت بصدمة لاكتشاف حجم جهلي "القهواتي"، فعملت دون كلل على ترميم ذلك الجهد، فكنت لا أتوقف عن شرب القهوة منذ لحظة استيقاظي حتى لحظة ما قبل النوم، وكانت هذه من الأشياء المشتركة النادرة بيني وبين زوجتي.
الصدمة الثانية كانت في إسطنبول، فقد اكتشفت أن القهوة التركية لا علاقة لها بالقهوة السورية، إلا بالاسم وبفناجين القهوة. القهوة التركية خشنة، ولا يتم غليها وإنما تقدم بمجرد فورانها، وهناك من يرى في ذلك ميزة، لمن يحب تذوق حبيبات القهوة الخشنة. بالنسبة لي، كانت هذه "مأساة"، تعادل أحياناً مأساة عدم وجود مياه صالحة للشرب في بعض مخيمات اللاجئين السوريين على الحدود السورية-التركية. وكنت قد عبرت عن إحساسي بالمرارة والقهر من وضع القهوة في إسطنبول، فمن طبعي أن لا أخفي مشاعر الحب والكراهية.
القهوة العربية
في أحد أيام إسطنبول، استيقظت باكراً وكتبت هذه الصبحية، وسبب ذلك هو "ركوة" قهوة عربية "مطنطة" أكرعها الآن، وقصتها أن الصديق الحموي، الحاج معاوية، الذي وصل إلى إسطنبول البارحة، للتجارة، وليس لزيارة الآثار العثمانية، حمل لي معه كمية "محرزة" من القهوة العربية التي يحضّرها محله العامر في الإمارات، قائلاً في نفسه: حرام هذا الحمصي، الذي لا يزال نسبه يعود إلى حماة، والذي يعيش منذ أشهر في البلاد العثمانية، وليس عنده قهوة يشربها بمزاج، كي يمارس النميمة على الناس، لذلك سأقدم له هذه الهدية. ولم يكتف الحاج بذلك، بل حمل معه كمية من المكسرات، متيحا لي، دون قصد منه، ممارسة نميمة المساء مع كأس من "المنكر"، فهو المؤمن الحقيقي، ليس مسؤولاً عن سلوك البشر، ولا يعرف ماذا يضمرون، وليس من واجبه أن يحاكمهم على نواياهم، فهذا من اختصاص العلي القدير وحده.
المهم، استلمت الهدية الحموية مساء، وراودتني نفسي الأمّارة بالسوء على تحضير القهوة، ولكن كان الوقت قد اقترب من منتصف الليل، وخفت ألا أنام بعدها نتيجة القلق من جهة، والتحريض الذي تسببه القهوة للبروستات، وضرورة زيارة الحمام كل ساعة على الأقل، أو ارتداء "حفوض" خاص للمسنين الذي لا يريدون مغادرة أسرتهم ليلاً، أو لا يستطيعون التحكم ببولهم غير الإرادي. ولما كنت أدرك مخاطر الاستسلام لنزعاتي الطفولية في تجريب القهوة، فقد اكتفيت بكأس صغير من الفودكا الروسية اللذيذة المثلجة، رغم كرهي للسياسة الروسية تجاه الثورة السورية، وفتحت كيس المكسرات فالتهمت منه ما لذّ وطالب، مطمئنا في الوقت نفسه على نوعية القهوة، لأنهما من مصدر واحد، فمن غير المعقول أن تكون المكسرات جيدة جدًا، والقهوة عاطلة. المهم أنني نمت والقهوة في نفسي رغم التحذيرات التي كان البابا كليمنت الثامن قد أطلقها عام 1600 ميلادية على أن القهوة مشروب إسلامي يجب الابتعاد عنه، ورغم تحريمها من قبل المسلمين في وقت ما من أوقات السلطنة، واعتبارها من مشروبات الكفار المسيحيين، وهكذا استيقظت في السادسة من صباح اليوم وحضّرت ركوة القهوة، وما إن رشفت منها الرشفة الأولى حتى اكتشفت حجم السعادة التي جلبها لي معه الحاج أبو عبدو، وقررت ممارسة النميمة الصباحية.
شكرا أيها الحاج السوري الكريم أبو عبدو، فقد تذكرت أخاً سورياً لك بالخير، رغم "نصرانيته"، مكتشفاً كل يوم، حجم جهلي بالنفس الإنسانية، وبتركيبة الإنسان السوري الخيّرة، وحاجتي إلى التعلّم!