28 أكتوبر 2024
قواعد جديدة لمواجهات مقبلة
في وقت يبدو الموقف الأميركي مرتبكًا في مواجهة إيران، وتتقلص احتمالات المجابهة العسكرية المباشرة في الخليج، بعد الإخفاقات التي منيت بها الولايات المتحدة هناك، أكان ذلك في امتناعها عن الرد على إسقاط طائرة الاستطلاع الأميركية، وفشلها في حشد قوة دولية للسيطرة على ممرات الملاحة فيه، وإخفاقها في إيقاف ناقلة النفط الإيرانية التي كانت محتجزة في جبل طارق، على الرغم من قرار وزارة العدل الأميركية مصادرة الباخرة، وتباين الموقف بينها وبين حلفائها في الموضوع النووي الإيراني، فإن ثمّة حروبا جانبية تندلع على أطراف هذا الصراع، وتكاد تشكّل واجهته الكبرى، إذ تخشى أطراف الصراع من إشعال الجبهة الرئيسة مع إيران مباشرة، فتلجأ إلى تعزيز مواقعها وإشعال جبهات أخرى، لعل الحسم فيها يؤدي إلى الانتصار في جبهةٍ يمتنع أطرافها عن إشعالها لاعتبارات شتى.
ليس هذا جديدا، فعلى مدى الأعوام الماضية، اندلعت الحرب في اليمن، وتعزّز وجود فيلق القدس الإيراني في سورية، وتضاعفت ترسانة حزب الله في لبنان، وانتشرت قواعده عبر سورية، واستقرت فيها بعد انحيازه للنظام السوري، وأصبح الحشد الشعبي في العراق المدعوم إيرانيًا قوة عسكرية كبرى، فضلًا عن ازدياد قوة إيران العسكرية، كمًا ونوعًا، ما أحدث تعديلًا في ميزان القوى العسكري في المنطقة، والذي مال بشدة سابقًا لمصلحة العدو الصهيوني، بعد خروج دولٍ عربية عدة من ساحة الصراع معه. ووسط متغيراتٍ إقليميةٍ تضمنت دورا لافتا لتركيا وإيران في الإقليم.
الجديد هو في التطورات التي حدثت في تلك الجبهات، ففي اليمن عجز "التحالف العربي" الذي
تقوده السعودية عن تحقيق أي إنجازٍ يُذكر. وبدأ هذا التحالف بالتفكّك بخروج الإمارات منه. إلا أن التطور الأبرز على الصعيد العسكري كان في استخدام الحوثيين طائراتٍ مسيرةً بلغ مداها أكثر من ألفي كيلومتر، وطاولت أكبر حقل نفطي سعودي بالقرب من أبوظبي في الإمارات، ما يعني أن مواقع دول التحالف أصبحت في مرمي هذه الصواريخ، ولكن انطلاقًا من اليمن.
وفي سورية، فشلت إسرائيل، على الرغم من قصفها المستمر قوافل (ومستودعات) السلاح المرسلة إلى حزب الله والحرس الثوري، في وقف تلك القوافل أو المسّ بهذه الترسانة التي تعاظمت يومًا بعد يوم. ويجب الاعتراف بنجاح التكتيك المستخدم في مواجهة ذلك القصف، والذي غضّ البصر عن قصف بعض القوافل والمستودعات، في مقابل النجاح في إدخال عشرات الشحنات الأخرى، وازداد ذلك بعد تأمين الخط البرّي الممتد من إيران عبر العراق فسورية، حتى أصبحت هذه الترسانة، بانتشارها الممتد عبر جميع هذه المواقع، يصعب ضربُها أو احتواؤها أو وقفها.
وتأتي التطورات التي استجدّت أخيرا في المنطقة ضمن هذا السياق، وتُفهم من خلاله، إذ ما يجري الآن هو خوض معارك في الإقليم، في اليمن والعراق وسورية ولبنان وفلسطين. ومن يحقق نصرًا فيها سيكون مهيأ لفرض شروطه في الإقليم بأسره، بما فيه الخليج وإيران وتركيا.
ثمّة تصعيد صهيوني لافت تمثّل في القصف الصهيوني لمواقع الحشد الشعبي في العراق، وعلى الحدود العراقية السورية، وفي سورية، حيث اعترفت إسرائيل بأنها قصفت موقعًا للحرس الثوري الإيراني، كان يستعدّ لإطلاق طائراتٍ مسيّرة ضدها، وأدّى القصف إلى مقتل اثنين من مقاتلي حزب الله، وأخيرًا استهداف الطائرات المسيرة هدفا تابعا لحزب الله في الضاحية الجنوبية، وذلك للمرة الأولى منذ حرب عام 2006.
لن تمر هذه الاعتداءات كما مر غيرها في السابق، إذ يبدو أنه، وفي ظل الصراع الأميركي الإيراني المحتدم، آن الأوان لكلا الطرفين الدخول في صراعٍ لاختبار مكامن القوة، وإحراز بعض النقاط. فإذا كانت إسرائيل تسعى إلى ضرب قوة حزب الله والوجود المتزايد للحرس الثوري في العراق وسورية، وإلحاق الهزيمة بالنفوذ الإيراني فيهما، وربما إلى عرقلة المساعي الأوروبية التي تهدف إلى حل النزاع الأميركي الإيراني عن طريق الحوار، فإن حزب الله وقد أصبح قوةً لا يُستهان بها، تهدّد الخاصرة الرخوة للكيان الصهيوني المتمثل في الجبهة الداخلية التي أصبحت بكاملها تحت مرمى الصواريخ، سيجد في الرد على هذه الاعتداءات فرصة تاريخية، لتعديل قواعد الاشتباك السابقة التي اضطر إلى القبول بها في سورية، ولتسجيل نقاطٍ إضافيةٍ تعزز من قوته في لبنان والمنطقة، وترخي بظلالها على الصراع الدائر في الخليج.
في خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الأحد الماضي (25/8/2019) ثمّة مؤشرات مهمة، ينبغي التقاطها، أولها أن حزب الله قرّر إظهار مكامن قوته التي عمل على حشدها وتطويرها في الفترة الماضية، ومنها حديثه عن نيته إسقاط الطائرات الإسرائيلية المسيّرة التي تحلّق في سماء لبنان، وإن كان قد حدّد لذلك شروطًا تتضمن اعترافًا بعدم قدرته الحالية على تأمين غطاء جوي كامل ومستمر، لكن مجرد إسقاط طائرة أو أكثر سيشكل تطورًا نوعيًا في المعادلة القائمة حاليًا.
أعلن نصر الله نيته الرد على الاعتداء الإسرائيلي، وأظنه سيفعل (إن لم يكن قد قام برد محدود قبل نشر هذه المقالة)، بل وقد يجعل مثل هذا الرد عملًا مستمرًا كلما قصف الصهاينة موقعا
للحزب في سورية، وأدّى هذا القصف إلى سقوط خسائر بشرية، وأن هذا الرد سيكون من لبنان، في محاولةٍ لفرض قاعدة اشتباك جديدة قد تتوسع مستقبلًا، مفادها بأن قصفًا على مواقع الحزب (وحلفائه) في سورية سيؤدي إلى رد عسكري من لبنان، وفي ذلك توسيع لرقعة المواجهة. كما أنه يحمل تساؤلاتٍ عن سبب تأكيد السيد حسن نصر الله على نيته الرد من لبنان، وليس من سورية أو من كليهما، وقد تكون الإجابة على الأرجح مرتبطةً بالتفاهمات الروسية الإسرائيلية، والتي تمنع، على ما يبدو، قيام رد عسكري على الغارات الإسرائيلية على سورية من الأراضي السورية. في حين أن الحدود اللبنانية ساحة مفتوحة أمام حزب الله، وإن كانت تحدّها توازنات تتعلق بالمعادلة اللبنانية الداخلية.
جاءت ردة الفعل الإسرائيلية على خطاب نصر الله سريعة، واستهدفت موقعًا في البقاع بالقرب من مدينة زحلة، يتبع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة. ويهدف العدو من قصف موقع فلسطيني ردا على خطاب نصر الله، التأثير على الداخل اللبناني الذي وقف موقفا متضامنًا ضد الاعتداء على الضاحية الجنوبية، عبر إعادة إدخال العامل الفلسطيني في المعادلة الداخلية اللبنانية، فالعدو في هذه الحرب التي شرعت أبوابها سيعود للنفخ في هذه النار، في محاولة لإشعال الفتنة وتفريق الصفوف.
هل سيبتلع العدو رد حزب الله، وهل سيوقف القصف على مواقعه في سورية أو في العراق؟ بطبيعة الحال لن يحدث شيء من ذلك. بل قد يعتبر الرد الإسرائيلي السريع، المتمثل في قصف قاعدة الجبهة الشعبية وتحليق طائرة مسيرة فوق بعلبك غداة خطاب حسن نصر الله، بمثابة تحدٍّ للحزب، ودعوة له إلى هذه المنازلة، تعزز ذلك دعوة بنيامين نتنياهو رئيس حزب أزرق أبيض المنافسة بن غانتس لحضور جلسة مشاورات أمنية، بغرض توحيد الموقف الإسرائيلي أمام أي تطورات، واعتباره خارج إطار الدعاية والتنافس الانتخابي.
الخلاصة أن المنطقة ستشهد تصعيدًا غير مسبوق، قد تمتد نيرانه أكثر، فتشهد تشابكًا بين الجبهات في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وسيتم إيجاد قواعد اشتباك مؤقتة، ما تلبث أن تنهار، ليأتي غيرها وفق موازين قوى جديدة، قد تغيّر معادلات سائدة. وقد تُشعل الشرارة سهلًا، فالحرب، كما يقول العرب، أولها كلام، لكنها هذه المرة قد تجاوزت ذلك إلى طائراتٍ مسيرة وصواريخ وشهداء وقتلى وصراعات تعصف بالمنطقة بأسرها، في محاولةٍ لإعادة ترتيب الأوراق فيها.
الجديد هو في التطورات التي حدثت في تلك الجبهات، ففي اليمن عجز "التحالف العربي" الذي
وفي سورية، فشلت إسرائيل، على الرغم من قصفها المستمر قوافل (ومستودعات) السلاح المرسلة إلى حزب الله والحرس الثوري، في وقف تلك القوافل أو المسّ بهذه الترسانة التي تعاظمت يومًا بعد يوم. ويجب الاعتراف بنجاح التكتيك المستخدم في مواجهة ذلك القصف، والذي غضّ البصر عن قصف بعض القوافل والمستودعات، في مقابل النجاح في إدخال عشرات الشحنات الأخرى، وازداد ذلك بعد تأمين الخط البرّي الممتد من إيران عبر العراق فسورية، حتى أصبحت هذه الترسانة، بانتشارها الممتد عبر جميع هذه المواقع، يصعب ضربُها أو احتواؤها أو وقفها.
وتأتي التطورات التي استجدّت أخيرا في المنطقة ضمن هذا السياق، وتُفهم من خلاله، إذ ما يجري الآن هو خوض معارك في الإقليم، في اليمن والعراق وسورية ولبنان وفلسطين. ومن يحقق نصرًا فيها سيكون مهيأ لفرض شروطه في الإقليم بأسره، بما فيه الخليج وإيران وتركيا.
ثمّة تصعيد صهيوني لافت تمثّل في القصف الصهيوني لمواقع الحشد الشعبي في العراق، وعلى الحدود العراقية السورية، وفي سورية، حيث اعترفت إسرائيل بأنها قصفت موقعًا للحرس الثوري الإيراني، كان يستعدّ لإطلاق طائراتٍ مسيّرة ضدها، وأدّى القصف إلى مقتل اثنين من مقاتلي حزب الله، وأخيرًا استهداف الطائرات المسيرة هدفا تابعا لحزب الله في الضاحية الجنوبية، وذلك للمرة الأولى منذ حرب عام 2006.
لن تمر هذه الاعتداءات كما مر غيرها في السابق، إذ يبدو أنه، وفي ظل الصراع الأميركي الإيراني المحتدم، آن الأوان لكلا الطرفين الدخول في صراعٍ لاختبار مكامن القوة، وإحراز بعض النقاط. فإذا كانت إسرائيل تسعى إلى ضرب قوة حزب الله والوجود المتزايد للحرس الثوري في العراق وسورية، وإلحاق الهزيمة بالنفوذ الإيراني فيهما، وربما إلى عرقلة المساعي الأوروبية التي تهدف إلى حل النزاع الأميركي الإيراني عن طريق الحوار، فإن حزب الله وقد أصبح قوةً لا يُستهان بها، تهدّد الخاصرة الرخوة للكيان الصهيوني المتمثل في الجبهة الداخلية التي أصبحت بكاملها تحت مرمى الصواريخ، سيجد في الرد على هذه الاعتداءات فرصة تاريخية، لتعديل قواعد الاشتباك السابقة التي اضطر إلى القبول بها في سورية، ولتسجيل نقاطٍ إضافيةٍ تعزز من قوته في لبنان والمنطقة، وترخي بظلالها على الصراع الدائر في الخليج.
في خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الأحد الماضي (25/8/2019) ثمّة مؤشرات مهمة، ينبغي التقاطها، أولها أن حزب الله قرّر إظهار مكامن قوته التي عمل على حشدها وتطويرها في الفترة الماضية، ومنها حديثه عن نيته إسقاط الطائرات الإسرائيلية المسيّرة التي تحلّق في سماء لبنان، وإن كان قد حدّد لذلك شروطًا تتضمن اعترافًا بعدم قدرته الحالية على تأمين غطاء جوي كامل ومستمر، لكن مجرد إسقاط طائرة أو أكثر سيشكل تطورًا نوعيًا في المعادلة القائمة حاليًا.
أعلن نصر الله نيته الرد على الاعتداء الإسرائيلي، وأظنه سيفعل (إن لم يكن قد قام برد محدود قبل نشر هذه المقالة)، بل وقد يجعل مثل هذا الرد عملًا مستمرًا كلما قصف الصهاينة موقعا
جاءت ردة الفعل الإسرائيلية على خطاب نصر الله سريعة، واستهدفت موقعًا في البقاع بالقرب من مدينة زحلة، يتبع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة. ويهدف العدو من قصف موقع فلسطيني ردا على خطاب نصر الله، التأثير على الداخل اللبناني الذي وقف موقفا متضامنًا ضد الاعتداء على الضاحية الجنوبية، عبر إعادة إدخال العامل الفلسطيني في المعادلة الداخلية اللبنانية، فالعدو في هذه الحرب التي شرعت أبوابها سيعود للنفخ في هذه النار، في محاولة لإشعال الفتنة وتفريق الصفوف.
هل سيبتلع العدو رد حزب الله، وهل سيوقف القصف على مواقعه في سورية أو في العراق؟ بطبيعة الحال لن يحدث شيء من ذلك. بل قد يعتبر الرد الإسرائيلي السريع، المتمثل في قصف قاعدة الجبهة الشعبية وتحليق طائرة مسيرة فوق بعلبك غداة خطاب حسن نصر الله، بمثابة تحدٍّ للحزب، ودعوة له إلى هذه المنازلة، تعزز ذلك دعوة بنيامين نتنياهو رئيس حزب أزرق أبيض المنافسة بن غانتس لحضور جلسة مشاورات أمنية، بغرض توحيد الموقف الإسرائيلي أمام أي تطورات، واعتباره خارج إطار الدعاية والتنافس الانتخابي.
الخلاصة أن المنطقة ستشهد تصعيدًا غير مسبوق، قد تمتد نيرانه أكثر، فتشهد تشابكًا بين الجبهات في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وسيتم إيجاد قواعد اشتباك مؤقتة، ما تلبث أن تنهار، ليأتي غيرها وفق موازين قوى جديدة، قد تغيّر معادلات سائدة. وقد تُشعل الشرارة سهلًا، فالحرب، كما يقول العرب، أولها كلام، لكنها هذه المرة قد تجاوزت ذلك إلى طائراتٍ مسيرة وصواريخ وشهداء وقتلى وصراعات تعصف بالمنطقة بأسرها، في محاولةٍ لإعادة ترتيب الأوراق فيها.