قوّة إسرائيل الناعمة
بعكس ما كان متوقعاً، أخفق ممثلو الدول العربية في الأمم المتحدة في تأمين دعم تسع من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، العدد اللازم لتمرير مشروع القرار الأردني الداعي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في غضون عامين.
وإذا عرفنا أن من بين الدول التي امتنعت عن التصويت دولتان أفريقيتان، نيجيريا ورواندا، فإن أحداً يجب ألا يشعر بالمفاجأة. ففي جميع المداولات التي شهدها مجلس الأمن في أثناء الحرب الإسرائيلية، الصيف الماضي، على غزة، منحت هاتان الدولتان إسرائيل هامش مرونة كبير لمواصلة القتل والتدمير من خلال إحباط كل مشاريع القوانين التي بحثها المجلس ودعت لوقف العدوان، في امتناعهما عن التصويت. وما يلفت في سلوك الدول الأفريقية أنها كانت، دائماً، تصوّت، بشكل تقليدي، لصالح كل مشاريع القرار المؤيدة للحق الفلسطيني. وجاء التحول الكبير في مواقفها نتاج الاستراتيجية التي انتهجتها إسرائيل في علاقاتها الدولية، يتم فيها توظيف التقدم الهائل الذي حققته إسرائيل في التقنيات المتقدمة في تحسين عوائد الأداء الدبلوماسي. وقد صاغ وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، المعادلة التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية، كالتالي: الحصول على التقنيات المتقدمة الإسرائيلية في مقابل دعم تل أبيب في المحافل الدولية. فعلى الرغم من أن اسم رواندا لم يرتبط في أذهان كثيرين في العالم، وضمنه العالم العربي، إلا بالمجازر القبلية التي شهدتها هذه الدولة قبل عقدين، إلا إنها حظيت باهتمام كبير من الإسرائيليين على مدى العقد الماضي، حيث استثمروا موارد كبيرة من أجل تحسين علاقاتهم مع هذه الدولة.
فقد أقامت إسرائيل مؤسسة لتقديم الاستشارات للمزارعين الروانديين، في حين أن السفارة الإسرائيلية في كيغالي تحرص على الوقوف على نتائج ما يتم تقديمه من مساعدات. فقد عرضت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة في يوليو/ تموز من العام الماضي تقريراً يظهر فيه السفير الإسرائيلي، آفي جرانوت، يمشي بين الحقول في الريف، ويتحدث للمزارعين الروانديين، ليطمئن على نتائج المواسم الزراعية. ولا شك أن إحدى قصص النجاح المدوية للرهان الإسرائيلي على عوائد تصدير التقنيات المتقدمة تتمثل في الشوط الذي قطعته الهند في حرصها على تحسين علاقاتها مع تل أبيب. فقد كشفت صحيفة "The Hind"، أوسع صحف الهند انتشاراً، أخيراً، أن الحكومة الهندية بصدد إعادة تقييم مواقفها في كل ما يتعلق بالتصويت على مشاريع القرار التي تقدم في المحافل الدولية، وتتعلق بالقضية الفلسطينية.
وحسب الصحيفة، هناك ميل لدى القادة الهنود بأن تكتفي نيودلهي بالامتناع عن التصويت على أي مشروع قانون يتعلق بفلسطين في المحافل الدولية. وسيشكل هذا التطور نقطة تحول كبيرة في كل ما يتعلق بتعاطي المحافل الدولية مع المشاريع المتعلقة بفلسطين. فالهند كانت، حتى وقت قصير، تتزعّم كتلة "دول عدم الانحياز"، والتي كانت تؤيد بشكل تلقائي المواقف الفلسطينية. وعلى الرغم من أن هذه الكتلة لم تعد قائمة، إلا أن التحول في مواقف الهند الدولية على هذا النحو سيترك آثاره على سلوك دول أخرى. وكما هو الحال مع أفريقيا، جاء التحول في مواقف الهند نتاج استثمار إسرائيلي حاذق للموارد "القومية".
فقد اكتشفت الهند سوق التقنيات المتقدمة الإسرائيلية، للأغراض العسكرية والمدنية، حتى أصبحت مصانع سلاح كثيرة في إسرائيل تدين ببقائها إلى نهم الهند للتقنيات العسكرية. ووصل الأمر إلى حد أن الهنود باتوا يرفضون استيراد السلاح من الولايات المتحدة ويكتفون بما تنتجه إسرائيل. وبخلاف الانطباع السائد، لم يكن التحول الهائل في العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية نتاج فوز حزب بهاراتا جاناتا اليميني المتطرف، بزعامة نيرنددا مودي، في الانتخابات الأخيرة، بل إن حكومات حزب الشعب أسهمت كثيراً في تعزيز العلاقات مع تل أبيب، بسبب الحاجة للتقنيات المتقدمة.
ولقد لعبت هذه التقنيات دوراً أساسياً في التحول الكبير الذي طرأ على العلاقات الإسرائيلية ـ الصينية. صحيح أن أحداً ليس في وسعه أن يتوقع سلوكاً صينياً مثل سلوك الدول الأفريقية في المحافل الدولية، لكن من الواضح أن بكين تبدي حرصاً كبيراً على تحسين العلاقات مع تل أبيب، بفعل الرغبة في مواصلة الإفادة من التقنيات المتقدمة. ففي زيارته إسرائيل قبل أربعة أشهر، فاجأ وزير الخارجية الصيني، يانج بي، مضيفيه عندما طلب زيارة حائط المبكى تحديداً. وبعدما زار المكان بالفعل، أبلغ الحاخام الرئيس في "الحائط" أنه معني بالاحتفاظ بالقبعة الدينية اليهودية التي أجبر على اعتمارها، كسائر زوار المكان، والعودة بها إلى بكين. وخرج الوزير عن طوره، وهو يشرح للحاخام مدى السعادة التي يشعر بها وهو يزور المكان. لم يصدقه أحد في إسرائيل، فهم يدركون موقف الوزير ونظام حكمه من الأديان بشكل عام، لكنهم أدركوا أن الصينيين يحاولون، بكل ما أوتوا من قوة، التودد للرأي العام في إسرائيل، في أعقاب اكتشافهم الطاقة الكامنة في العلاقات مع تل أبيب.
فالصين معنية بتوسيع هامش استفادتها من التطور الكبير الذي أحرزته إسرائيل في مجال التقنيات المتقدمة، من أجل تحسين قدرات اقتصادها الإنتاجية، سواءً في المجالات: الصناعية والعمرانية والزراعية. ويكثر وزير الاقتصاد الإسرائيلي، نفتالي بنات، عرض مواد سمعية بصرية على حسابه على موقعي "فيسبوك" و"تويتر"، ليوضح مدى إفادة الصينيين من التقنيات المتقدمة التي تنتجها إسرائيل. والاستنتاج الذي يحاول بنات، وهو يتزعم حزب "البيت اليهودي" الذي يمثل أقصى اليمين الديني المتطرف، إقناع متابعيه به، أن في وسع إسرائيل توظيف تفوّقها في مجال التقنيات المتقدمة في تحسين مكانتها الدولية، وتعزيز علاقاتها مع القوى المؤثرة في العالم، من دون أن تقدم أية تنازلات للفلسطينيين. ويتحدث الإسرائيليون عن حماس صيني للتعاون الأمني والاستخباري مع تل أبيب، في قضايا كثيرة. ويتوجه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، يوسي كوهين، إلى الصين في فترات متقاربة للتنسيق والتشاور.
قصارى القول، تحولت التقنيات المتقدمة الأداة الأبرز بالنسبة لإسرائيل لمراكمة قوتها الناعمة، والإفادة من علاقاتها الدبلوماسية في تحسين مكانتها العالمية، وتأمين تعاون القوى العظمى، بما يعزز أمنها "القومي". وهذا يتناقض مع سلوك الدول العربية التي لا تخضع علاقاتها الثنائية مع القوى الخارجية للأمن القومي. بل إن دولاً عربية لا تتردد في لعب دور وظيفي فج، بشكل يستفز مشاعر شعوبها. والمثال الأبرز ما كشفته حادثة أسر تنظيم الدولة الإسلامية طياراً أردنياً، بعدما تبيّن مدى تورط النظام في عمان في حرب لا ناقة للأردن فيها ولا جمل.