لم يوفّر تنظيم "داعش" وسيلة لعزل مدينة الموصل عن محيطها والعالم، إلا ولجأ إليها. وفي زمن التكنولوجيات الحديثة، يأتي قطع شبكة الإنترنت وشبكة الهاتف الخلوي ضربة مؤلمة إضافيّة لأهالي المدينة وتواصلهم.
الحياة معطّلة. هكذا يمكن وصف الواقع في مدينة الموصل بعدما قطع تنظيم "داعش" خدمة الإنترنت فيها منذ أسابيع، فعطّل بذلك كثيراً من الأعمال والمهن التي تعتمد على هذه الخدمة التي باتت ضروريّة، بالإضافة إلى منع تواصل الأهالي مع ذويهم وأبنائهم عبر الشبكة، خصوصاً بعدما كان التنظيم قد علّق خدمة الهاتف النقال قبل أشهر. لكن خدمة الإنترنت تعود لتظهر بين حين وآخر بشكل خجول في المدينة من دون أن تلبّي الحاجة، من خلال أساليب يتبعها البعض لتأمينها عبر الأقمار الصناعيّة.
يخبر هاشم عناز أنه يضطر إلى الذهاب مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً إلى منطقة الشلالات (10 كيلومترات شرق الموصل) على الرغم من مرضه، حتى يتمكّن من الاتصال بابنه النازح في إربيل، عبر شبكة الهاتف النقال التي تؤمنها تلك المنطقة المرتفعة إذ تلتقط إرسال أبراج سهل نينوى القريب. في السابق، كانت شبكة الإنترنت تؤمن له الاتصال وهو جالس في بيته. ويشكو بأسى من "صعوبة الاتصالات التي تتطلب مجهوداً ومصاريف، في حين نحن نعيش بطالة كبيرة. كذلك لا نستطيع الاطمئنان إلى أقاربنا في داخل الموصل، إلا إذا ذهبنا إليهم في أماكن وجودهم. وهذا يعرّضنا إلى مخاطر الطريق في ظل انتشار عناصر داعش".
ويؤكد أن "شبكتَي الإنترنت والخلوي قد توقفتا تماماً في الداخل، أما الاتصال بالخارج فنادر، وهو غير ممكن إلا في حال توجهنا إلى أماكن مرتفعة في خارج المدينة. وهذا أيضا ينطوي على خطورة، إذ قد نتعرّض للاعتقال من قبل عناصر التنظيم. فالاتصالات ممنوعة من قبلهم، ومن يخالف أوامرهم مصيره الاعتقال والعقاب".
وقد أعادت بعض المصادر الأمنية المحلية السبب إلى تأثير ضربات طائرات التحالف الدولي والطيران العراقي والقوات الأمنية العراقية وقوات البيشمركة التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوفه، والتي أرجعها التنظيم إلى تسريب معلومات عن تحركاته ومواقعه عبر شبكة الإنترنت. أما آخرون فقد أعادوا سبب توقف الشبكة في الموصل إلى قطع متعمّد من المصدر الذي ترتبط به شركات الاتصالات في إقليم كردستان، وذلك لأسباب أمنية تتعلق بخطط القتال والاشتباكات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يؤمّن داعش اتصالاته مع عناصره في داخل العراق وخارجه، خصوصاً أن المنطقة الواقعة تحت سيطرته واسعة تمتدّ بين العراق وسورية؟ بالنسبة إلى المحلل السياسي و. ع.، فإن "التنظيم يعتمد في ذلك على منظومة اتصالات محدودة حصل عليها من مقرات القوات الأمنية والاستخباراتية التي تركت كل معداتها وأجهزتها في أثناء انسحابها من الموصل في العاشر من يونيو/حزيران الماضي". يضيف أنه يعتمد أيضاً على "شرائح شركات الإنترنت الجوالة ولو في نطاق ضيق لسهولة رصدها، وعلى منظومات خاصة بالتنظيم في سورية. كذلك هو يستخدم أجهزة اتصال فضائية لتأمين الاتصالات بعيدة المدى كنظام ثريا".
وتعطل شبكة الإنترنت قد يكون جزئياً أحياناً في الموصل، بعدما نجح بعض الناشطين وخبراء برمجة الاتصالات في تأمينها عبر طرق وأساليب مختلفة، ومنها عن طريق الأقمار الصناعية. لكنها تبقى بطيئة لا تؤمن خطاً سريعاً يفي بالغرض ويسدّ الحاجة كما كان الأمر سابقاً. ويخبر الشاب ناهض عبد أنه تمكّن بالتعاون مع بعض الأصدقاء من "تأمين خط إنترنت عبر شبكة يدوية. لكن الاتصال بطيء. على الرغم من ذلك، نشعر بالفخر لأننا تمكنا من استعادة شبكة الإنترنت ولو بشكل مؤقت". يضيف: "هذا أقل ما يمكن تقديمه لمدينتنا المظلومة التي تئن منذ أشهر نتيجة طعنات موجعة سدّدت إليها ظلماً من قبل التنظيم المتشدد وأعوانه تحت أنظار العالم أجمع".
وقد أصاب توقف الشبكة في الموصل أصحاب شركات الإنترنت بخسائر مالية كبيرة، بحسب ما يؤكد أحد الموظفين الذي فضّل عدم الإفصاح عن هويته. يقول: "منيت الشركات ومقاهي الإنترنت بخسائر مالية كبيرة بعد توقف الشبكة، واضطرت إلى تسريح الموظفين والعمال وإقفال أبوابها. ومن بين تلك، شركتنا التي كانت تؤمن الخطوط للمقاهي وخطوط أخرى للدوائر الحكومية والشركات الخاصة والمنازل. ونحن اليوم عاطلون من العمل في حين لدينا التزامات عديدة". يضيف: "نحن لا نستغرب توقف هذه الخدمة بعدما تعطلت قبلها خدمات عديدة كانت تقدم للمواطنين، وكل ذلك بسبب داعش الذي أضر بالمدينة في كل مجالات حياة المواطنين".
ولم تقتصر الخسائر المالية والمادية على أصحاب وممثلي شركات الاتصالات في الموصل، بل شمل الأمر أيضاً أصحاب مهن كثيرة يرتبط عملها بشبكة الاتصالات فراحت تعاني ركوداً واضحاً. لا بل إن اقتصاد المدينة تدهور هو الآخر نتيجة ذلك. ويؤكد أحمد محيي، وهو صاحب مكتب صيرفة في منطقة المثنى، الخسائر قائلاً: "أعمالنا شبه متوقفة بعد تعطيل شبكة الإنترنت التي كنا نعتمد عليها في معاملاتنا في بيع وشراء العملات في داخل الموصل وخارجها. وقد ازداد إقبالنا على الإنترنت بعد توقف شبكة الخلوي. واليوم نحن عاجزون عن إجراء أي تعامل مالي بسبب قطع الإنترنت واقتصار التعاملات المالية على حضور الزبون إلى المكتب. وهذا يعني أن عملنا يقتصر فقط على الزبائن المحليين من المنطقة نفسها أو المناطق القريبة منها". يضيف أن "قطع الاتصال بالإنترنت أساء إلى كثير من الأعمال والمهن في الموصل، وخصوصاً الدوائر الحكومية التي يعد الإنترنت عصباً بالنسبة إليها في تأمين اتصالاتها مع بغداد وباقي المحافظات وحتى الأقضية والنواحي، إلى جانب الاتصالات بخارج العراق".
من جهتهم، يحذّر خبراء الاقتصاد والاجتماع من تأثير استمرار قطع الاتصالات بأشكالها على الحياة في مدينة الموصل. ويقول الباحث الاقتصادي باسم جميل إن ذلك "أربك الحياة في المدينة التي اعتادت على هذه الخدمة في إنجاز كثير من الأعمال كما العالم المتحضر من حولنا. والنتائج السلبية واضحة للعيان خصوصاً اقتصادياً. فقد أضرّ ذلك بحركة السوق، فتعطلت مهن كثيرة، ما ساهم بتدهور الاقتصاد إلى جانب قلة البضائع وارتفاع ثمنها. وذلك من شأنه التسبب في مشكلات اجتماعية ونفسية لدى الأهالي الذين ضاقوا ذرعاً بهذا التنظيم وما حمله إليهم من معاناة لا تنتهي إلا برحيله عن المدينة".