بأسى، تلقت باريس رحيل أحد أهم مصممي الأزياء عالمياً، كارل لاغرفيلد، الذي سمي بـ"مخترع الموضة". وبرحيله، يخط النقطة الفاصلة لنهاية جيل الكبار، من أمثال إيف سان لوران ورالف لوران وبيار كاردان وجورجيو آرماني.
وأعلنت "دار شانيل"، التي ظل لاغرفيلد مديرها الفني طيلة ستة وثلاثين عاماً رحيله، أول من أمس، بعد وعكة صحية مكث خلالها في مستشفى في منطقة "نيو سور سين" قرب باريس.
برحيل هذا المصمم اللامع، تودع عاصمة الأزياء باريس أيقونة "البوب" في عالم الموضة والشخصية الجدلية التي بقيت شاغلة الصحافة لسنوات، بعد أن فتحت مسارب كثيرة لجيل من المصممين الشباب وألهمت العشرات لدخولهم عالم، الاسم فيه ينتهي إذا لم يسبق اللحظة المبتكرة. وهذه حال عاكسها لاغرفيلد، ليبقى على عرش التصميم وإداراته الفنية كل هذه السنوات، بلا كلل وبتأثير دائم.
خطوط البهجة
لاغرفيلد كشخص كان قد غاب منذ فترة، لكنه حافظ على ظل شخصياته الأخرى، ليعيد كتابة تاريخه الشخصي والعام بشروطه التي وقعها مراراً خارج الموضة نفسها، في اختراع ما عرف بالنجوم والتأثير على السينما والفن والاحتفالات والسهرات الكبرى، وفي تأثيره القوي على خطوط الألوان والبهجة، إلى الأناقة، وصولاً إلى صالونات الثرثرة والنميمة. كل هذا ليس بعيداً عن أسرار هذا الفضاء الذي كساه كارل بحضوره الشقي.
ومع رحيله، يعيد طرح سؤال جدلي في الصحافة العالمية حول دور "الآباء الروحيين" في عالم الموضة في التأثير على ما سترتديه الأجيال اللاحقة. لا بد أن لكل مصمم هواه، لكن في كل هوى يوجد نَفَسٌ خاص من كارل لاغرفيلد، ومن إيف سان لوران، وغيرهما من الرعيل الأكثر ألقاً وحضوراً، ولا سيما أن كارل بقي يؤكد قبل رحيله، ومنذ عام فقط، أن الابتكار لا يموت ومتجدد، فحجز لنفسه أطول وقت ممكن في تاريخ الموضة وعوالمها.
خطوة إلى الأمام
حياة كارل لاغرفيلد كانت خطوة إلى الأمام. وهذا ما يجب الاعتراف به. كان لا يتقدم بالعمر. يخفي السنين خلف نظارته السوداء التي اشتهر بها. لا يدعي الحنين ولا يعنيه الماضي ولا يتكلف بكل هذا. كانت نظرته تتجه، دائماً، إلى مستقبل الموضة، وصناعتها، بعيداً عن التلصّص والتقليد الزائف، والذوق المترهل. وهو ما انتقده مراراً في قراءته لأعمال شباب معاصرين. رؤيته للزي كانت أبعد من كونه لباساً وموضة ستنتهي. الزي بالنسبة إليه ترويض للعصر، وجعله باهراً، يخدم الجماليات الحياتية نفسها.
وبرغم غيابه؛ فألغاز كارل لاغرفيلد كثيرة، بدءاً من سنة ولادته، هل ولد عام 1933 أم عام 1935؟ ترك السؤال معلقاً بلا جواب نهائي، ملتفاً على الزمن بأناقته وظهوره الإعلامي بشيء من الغرور والأنفة، كأنه يتحدى الزمن وتجاعيده. هو نفسه صنع لنفسه صورة مكرسة لا تتزحزح: نظارات حادة، دخان كثيف، قفازات لامعة وقطع ألماس وخواتم فضية كثيرة. كل هذه الأشياء طبعت شخصيته المفتونة بالجمال والتألق بأبهى حلة.
الأحجية
وهنا كان يلعب. أحجيته الشخصية باللعب على كل شيء. لعبة بنائية لم تختفِ منها أيضاً طفوليته العابثة. كان يظهر في مقابلاته وهو يروي حكاية تلو أخرى، عن والديه اللذين نستكشف من كلامه عنهما أنهما كانا شخصيتين رومانسيتين لا يمكن إيجادهما إلا في قصص الخيال والرواية، أو في طيات الشعر. والده رجل أعمال سويدي غامر كثيراً، وأورث هذا الطبع لابنه. ثم حصل ثروة كبيرة من خلال مزرعته في هامبورغ، بفضل بيع الحليب. أما الأم، فكانت هي الملهمة الأولى، والتي شكلت في خيال الطفل هويته الأولى عن عالم سيطبع كل أزمنته وتقلباتها. فهي التي جالت صالونات الأزياء وبيوتها العريقة في باريس، حولت أنظار الطفل إلى لعبته الأخيرة والنهائية: كيف تعيد اختراع شكل الناس وأهوائهم أمام بعضهم بعضاً؟ كيف تشكّل لباسهم ورغباتهم وصورهم بعضم عن بعضهم؟ هذه هي لعبة كارل التي جعلته اليوم، ورغم رحيله، واحداً من هواة الابتكار اللامحدود، غير المعني بهوية جنسية أو طبقية أو لونية معينة. كان كل شيء صنيعة هذا المزيج الساحر.
اقــرأ أيضاً
الحياة البرجوازية
يقول كارل في إحدى مقابلاته: "تلقيت تعليماً سمح لي بالقراءة والكتابة والتحدث باللغة الألمانية والفرنسية والإنكليزية في السادسة من العمر". من هذه الألسنيات الكثيرة، مزج كارل ثقافته واطّلاعه على مجلات تتحدث بلغات مختلفة، وكتب جعلته تواقاً إلى المعرفة. ومن القصص المصورة، بدأ بالرسم، وهنا خط كل معرفته في تعابير الموضة وخطوطها.
نشوء كارل في عائلة مرتاحة مالياً، جعله يكمل دراسته الثانوية في باريس؛ فحصل على شهادة في الرسم والتاريخ والفنون، وبدأ عمله في مجال الأزياء كمساعد لبيار بالمان. وبعد ثلاث سنوات، انتقل إلى العمل مع جان باتو، وصمم مجموعتين من "الهوت كوتور"، ثم أطلق مجموعة خاصة به في عام 1958، مستعملاً اسم رولاند كارل بدلاً من كارل لاغرفليد. كانت تصاميمه تتميّز بأنها قصيرة ولعوبة، ولعل تنانيره التي صممها في عام 1960 كانت الأقصر بين مجايليه، وطرحت جدلاً يومها في الوسط: كيف سترتدي النساء تنانير ترتديها عادة بائعات الهوى؟ كان هذا هو تحدي كارل، وهو يشبه إلى حد ما فعله مراراً إيف سان لوران.
وفي عام 1963، بدأ يصمم للماركة الإيطاليّة "تيزاني"، ومع البداية في عام 1964، انتقل إلى العمل في دار "كلوي" الفرنسية، وصمم مجموعات كثيرة للدار، ولاقت مجموعته في عام 1973 نجاحاً كبيراً، وتزامن هذا مع تعاونه أيضاً مع دار "فندي".
أما أبرز محطات المصمم، فهي توليه منذ 1983 مركز المدير الفني في دار شانيل، والذي بقي فيه طيلة ذاك الوقت، رغم تقديمه أعمالاً أخرى مع دور أزياء وصناعة لباس شعبية. ففي عام 2002، تعاون مع ماركة "ديزيل"، حيث عرضت قطع المجموعة الخمس في أسبوع الموضة في باريس، محققة نجاحاً باهراً في المبيعات. ومن المحطات المهنية البارزة له، كان تعاونه مع ماركة H&M. لكن كل هذه المحطات بقيت علامة فارقة في تاريخ شخصي ومهني لا يتكرر، لرجل وملهم أيضاً لن يتكرر.
برحيل هذا المصمم اللامع، تودع عاصمة الأزياء باريس أيقونة "البوب" في عالم الموضة والشخصية الجدلية التي بقيت شاغلة الصحافة لسنوات، بعد أن فتحت مسارب كثيرة لجيل من المصممين الشباب وألهمت العشرات لدخولهم عالم، الاسم فيه ينتهي إذا لم يسبق اللحظة المبتكرة. وهذه حال عاكسها لاغرفيلد، ليبقى على عرش التصميم وإداراته الفنية كل هذه السنوات، بلا كلل وبتأثير دائم.
خطوط البهجة
لاغرفيلد كشخص كان قد غاب منذ فترة، لكنه حافظ على ظل شخصياته الأخرى، ليعيد كتابة تاريخه الشخصي والعام بشروطه التي وقعها مراراً خارج الموضة نفسها، في اختراع ما عرف بالنجوم والتأثير على السينما والفن والاحتفالات والسهرات الكبرى، وفي تأثيره القوي على خطوط الألوان والبهجة، إلى الأناقة، وصولاً إلى صالونات الثرثرة والنميمة. كل هذا ليس بعيداً عن أسرار هذا الفضاء الذي كساه كارل بحضوره الشقي.
ومع رحيله، يعيد طرح سؤال جدلي في الصحافة العالمية حول دور "الآباء الروحيين" في عالم الموضة في التأثير على ما سترتديه الأجيال اللاحقة. لا بد أن لكل مصمم هواه، لكن في كل هوى يوجد نَفَسٌ خاص من كارل لاغرفيلد، ومن إيف سان لوران، وغيرهما من الرعيل الأكثر ألقاً وحضوراً، ولا سيما أن كارل بقي يؤكد قبل رحيله، ومنذ عام فقط، أن الابتكار لا يموت ومتجدد، فحجز لنفسه أطول وقت ممكن في تاريخ الموضة وعوالمها.
خطوة إلى الأمام
حياة كارل لاغرفيلد كانت خطوة إلى الأمام. وهذا ما يجب الاعتراف به. كان لا يتقدم بالعمر. يخفي السنين خلف نظارته السوداء التي اشتهر بها. لا يدعي الحنين ولا يعنيه الماضي ولا يتكلف بكل هذا. كانت نظرته تتجه، دائماً، إلى مستقبل الموضة، وصناعتها، بعيداً عن التلصّص والتقليد الزائف، والذوق المترهل. وهو ما انتقده مراراً في قراءته لأعمال شباب معاصرين. رؤيته للزي كانت أبعد من كونه لباساً وموضة ستنتهي. الزي بالنسبة إليه ترويض للعصر، وجعله باهراً، يخدم الجماليات الحياتية نفسها.
وبرغم غيابه؛ فألغاز كارل لاغرفيلد كثيرة، بدءاً من سنة ولادته، هل ولد عام 1933 أم عام 1935؟ ترك السؤال معلقاً بلا جواب نهائي، ملتفاً على الزمن بأناقته وظهوره الإعلامي بشيء من الغرور والأنفة، كأنه يتحدى الزمن وتجاعيده. هو نفسه صنع لنفسه صورة مكرسة لا تتزحزح: نظارات حادة، دخان كثيف، قفازات لامعة وقطع ألماس وخواتم فضية كثيرة. كل هذه الأشياء طبعت شخصيته المفتونة بالجمال والتألق بأبهى حلة.
الأحجية
وهنا كان يلعب. أحجيته الشخصية باللعب على كل شيء. لعبة بنائية لم تختفِ منها أيضاً طفوليته العابثة. كان يظهر في مقابلاته وهو يروي حكاية تلو أخرى، عن والديه اللذين نستكشف من كلامه عنهما أنهما كانا شخصيتين رومانسيتين لا يمكن إيجادهما إلا في قصص الخيال والرواية، أو في طيات الشعر. والده رجل أعمال سويدي غامر كثيراً، وأورث هذا الطبع لابنه. ثم حصل ثروة كبيرة من خلال مزرعته في هامبورغ، بفضل بيع الحليب. أما الأم، فكانت هي الملهمة الأولى، والتي شكلت في خيال الطفل هويته الأولى عن عالم سيطبع كل أزمنته وتقلباتها. فهي التي جالت صالونات الأزياء وبيوتها العريقة في باريس، حولت أنظار الطفل إلى لعبته الأخيرة والنهائية: كيف تعيد اختراع شكل الناس وأهوائهم أمام بعضهم بعضاً؟ كيف تشكّل لباسهم ورغباتهم وصورهم بعضم عن بعضهم؟ هذه هي لعبة كارل التي جعلته اليوم، ورغم رحيله، واحداً من هواة الابتكار اللامحدود، غير المعني بهوية جنسية أو طبقية أو لونية معينة. كان كل شيء صنيعة هذا المزيج الساحر.
يقول كارل في إحدى مقابلاته: "تلقيت تعليماً سمح لي بالقراءة والكتابة والتحدث باللغة الألمانية والفرنسية والإنكليزية في السادسة من العمر". من هذه الألسنيات الكثيرة، مزج كارل ثقافته واطّلاعه على مجلات تتحدث بلغات مختلفة، وكتب جعلته تواقاً إلى المعرفة. ومن القصص المصورة، بدأ بالرسم، وهنا خط كل معرفته في تعابير الموضة وخطوطها.
نشوء كارل في عائلة مرتاحة مالياً، جعله يكمل دراسته الثانوية في باريس؛ فحصل على شهادة في الرسم والتاريخ والفنون، وبدأ عمله في مجال الأزياء كمساعد لبيار بالمان. وبعد ثلاث سنوات، انتقل إلى العمل مع جان باتو، وصمم مجموعتين من "الهوت كوتور"، ثم أطلق مجموعة خاصة به في عام 1958، مستعملاً اسم رولاند كارل بدلاً من كارل لاغرفليد. كانت تصاميمه تتميّز بأنها قصيرة ولعوبة، ولعل تنانيره التي صممها في عام 1960 كانت الأقصر بين مجايليه، وطرحت جدلاً يومها في الوسط: كيف سترتدي النساء تنانير ترتديها عادة بائعات الهوى؟ كان هذا هو تحدي كارل، وهو يشبه إلى حد ما فعله مراراً إيف سان لوران.
وفي عام 1963، بدأ يصمم للماركة الإيطاليّة "تيزاني"، ومع البداية في عام 1964، انتقل إلى العمل في دار "كلوي" الفرنسية، وصمم مجموعات كثيرة للدار، ولاقت مجموعته في عام 1973 نجاحاً كبيراً، وتزامن هذا مع تعاونه أيضاً مع دار "فندي".
أما أبرز محطات المصمم، فهي توليه منذ 1983 مركز المدير الفني في دار شانيل، والذي بقي فيه طيلة ذاك الوقت، رغم تقديمه أعمالاً أخرى مع دور أزياء وصناعة لباس شعبية. ففي عام 2002، تعاون مع ماركة "ديزيل"، حيث عرضت قطع المجموعة الخمس في أسبوع الموضة في باريس، محققة نجاحاً باهراً في المبيعات. ومن المحطات المهنية البارزة له، كان تعاونه مع ماركة H&M. لكن كل هذه المحطات بقيت علامة فارقة في تاريخ شخصي ومهني لا يتكرر، لرجل وملهم أيضاً لن يتكرر.