"صحّة".. "عافية"... تردّد الوالدة وهي تسمّي أولادها الأربعة. "تدعو لنا، بينما تحرّك الجمر في بابور الحطب وتتطاير الشرارات الحمراء في الغرفة". وتعود إلى عفيفة الغبطة نفسها التي كانت تغمرها وهي طفلة صغيرة. كان ذلك "من طقوس ليلة عيد الميلاد، يتكرّر في كلّ عام ما بين العاشرة والحادية عشرة ليلاً، عندما تجتمع العائلة حول البابور الذي يوقد بقرامي التوت".
في الثالثة والثمانين من عمرها، ما زالت عفيفة تذكر تفاصيل تلك الفترة من العام. "هو زمن المجيء. لم يكن الأمر يقتصر على ليلة الرابع والعشرين - الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأوّل. كان ينطلق قبلها بأسابيع مع الصوم الصغير، ثمّ تأتي تساعيّة الميلاد. كان ذلك قبل أن يظهر بابا نويل". في تلك الفترة من العام، كانت الثلوج تغطّي قريتها الجبليّة وجوارها، "لكنّنا لم نكن نفوّت يوماً من أيّام التساعيّة. ما زلت أذكر كيف كنّا نطبّش في الثلج ونحن في طريقنا إلى الكنيسة في تلك الأيّام التسعة". وفي ليلة العيد، قبل التوجّه إلى قدّاس منتصف الليل، "كنّا نتناول العشاء ونشوي الكستناء (إذا تيسّر ذلك) أو البلّوط في معظم الأحيان. أمّا في يوم العيد، فكانت عائلتنا مجتمعة تقصد أقاربنا لتهنئتهم. في تلك الأيام، لم يكن في الضيعة طريق كرّوسة، فاعتدنا التنقّل سيراً على الأقدام. وهم كانوا يردّون لنا الزيارة في اليوم التالي، أو خلال أسبوع". في تلك الزيارات، كانوا يرتدون ثياب العيد الجديدة. "لم تكن ألبسة جاهزة. أمّي كانت تخيطها لنا. نساء الضيعة جميعهنّ، كنّ يفعلنَ".
تتوقّف عفيفة للحظات. تغصّ وتغرق عيناها بالدموع. تتذكّر والدَيها وتلك الأيّام الغابرة. وتأخذها الذكريات إلى أحداث أخرى، قبل أن تستدرك قائلة: "فلنتحدّث عن فرح عيد الميلاد". وتخبر عن شجرة العيد التي "كانت من شلوح صنوبر نقطعها من حرج الضيعة. كنّا نحضر كذلك من الحرج، عْمَيْشْقَة (نبات متسلّق) تحمل حبوباً حمر للزينة. وعلى أغصان شجرتنا، نعلّق الكعك والليمون وثماراً أخرى. كنّا نقدّم منها إلى الزائرين المهنّئين بالعيد. كذلك، نضيف إلى الشجرة حراتيق مختلفة، من قبيل الشرائط الملوّنة". ولأنّ لا شجرة عيد من دون مغارة، "كنّا نلجأ إلى أكياس الترابة (الإسمنت) الفارغة ونرشّها بالألوان. لم أعد أذكر أيّ مادة كنّا نستخدم. وبين خراف مغارتنا، كنّا نضع ما نبت من عدس وقمح وحبوب أخرى سبق وزرعناها في عيد البربارة".
صحيح أنّ "بابا نويل" لم يكن قد ظهر في تلك المناطق الجبليّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، إلّا أنّ الأطفال كانوا يحصلون على هداياهم. "وهي كانت على نسق ما كان رائجاً في ذلك الحين في القرى. حذاء جديد على سبيل المثال، إذا كنّا نحتاجه. وكنّا نحصل كذلك على أطايب مختلفة، نقدّم مثلها إلى المهنّئين بالعيد". أطايب ذلك الزمن كانت "الزبيب والجوز واللوز والتين المجفّف. كنّا نكسر اللوز والجوز ونجفّف التين. كلّ شيء كان يخرج من الأرض.. أرضنا. كأنّها كانت تحتفل معنا بالعيد".
لا تختلف ذكريات جاكلين عن تلك التي ما زالت تسكن عفيفة، فهما ابنتا ضيعة واحدة. "كانت المعايدة من أساسيّات العيد. كنّا ننتقل من ضيعة إلى أخرى سيراً على الأقدام، من أجل ذلك. كان كلّ شيء مختلفاً حينها. كان الناس من دون فنطزة". وتتحدّث الجدّة التي تقترب من ثمانينها، عن قدّاس منتصف الليل. كان ذلك طقس العيد الأساسيّ، قبل أن يتحوّل اليوم إلى مجرّد مظاهر ملوّنة وهدايا. "بالتأكيد كنّا نحصل على الهدايا ونقدّم أخرى، إلّا أنّها لم تكن متكلّفة. أكبر هديّة كانت كنزة من الصوف. وفي بعض الأحيان، كانت مونة مختلفة. كان الأقارب يقدّمون لبعضهم بعضاً ما يحتاجونه. نحن لم نعرف بابا نويل إلا وقد أصبحنا صبايا".
حتى يومنا، ما زالت جاكلين تعدّ المغلي وتقدّمه لمهنّئيها في العيد. هي من القليلات المتمسّكات بتلك العادة. "المغلي هو بمناسبة ولادة الطفل يسوع. لطالما أعدّ الناس هذه الحلوى عند ولادة طفل ذكر في العائلة. ورثت ذلك عن أمي وقريباتنا. في ذلك الزمن، لم نكن نعرف البوش، غير أنّنا كنّا نقدّم للمهنّئين بالعيد الشوكولاتة والمكسّرات والفاكهة المجفّفة إلى جانب المغلي".
كانت جاكلين ابنة وحيدة لوالدَيها، وكانت تحظى باهتمام كبير. "فستان جديد. جوارب جديدة. سكربينة جديدة. وكانت أمّي تسرّح شعري وتضع فيه الشرائط. وفي يوم العيد، كنّا نجتمع حول مائدة الغداء في منزل جدّي".
تنظر جاكلين إلى شجرة العيد البلاستيكيّة التي زيّنتها ابنتها في الدار، وتتحدّث عن تلك التي كانت تنهمك فيها خلال طفولتها. "كانت من شلوح صنوبر أو سرو نزيّنها بالقطن الأبيض وببعض طابات صغيرة ملوّنة بسيطة جداً وكذلك بالشرائط. أمّا الأهمّ من الشجرة، فكانت المغارة التي نحيطها بما نبت من قمح وما إليه. ولم نكن نفكّكهما، إلا بعد انقضاء عيد الغطاس. هكذا كانت تقتضي الأصول".