وقد يدفع الكتاب قاعدة ترامب إلى طرح علامات استفهام عن مدى صدقه في شعاراته المحافظة التي تشكل حزام التفاف الجمهوريين حوله. فما احتواه الكتاب من معلومات يرقى إلى مستوى الفضيحة، وبما يثير الشكوك إن لم يكن النفور في أوساطهم، فضلاً عن المستقلين الذين صوّتوا له في المرة الماضية على أساس طروحاته الأميركية المتشددة.
كثيرون من أعوان وأركان إدارته الذين عملوا معه في السنوات الأولى من ولايته، والذين أقيلوا أو استقالوا، كتبوا وأدلوا بتصريحات ومقابلات وشهادات مؤذية للرئيس من ناحية أدائه وتفرده وتسرعه ومزاجيته المتقلبة. لكنها كلها فشلت في أن تؤدي إلى أي تآكل ملحوظ في شعبيته، علماً أنّ من مؤيديه من هو محسوب على الخندق الجمهوري المحافظ. مع ذلك بقي الولاء للرئيس متسيّداً لدى هذه الفئات.
ومع بولتون الصورة مختلفة من حيث القدرة على اختراق هذه الولاءات أو زعزعتها. فهو محافظ عتيق ويعتبر عميد عتاة المتشددين أو واحداً من أيقوناتهم. له حضور مسموع ونافذ في أوساطهم. قضى عمره متنقلاً في مواقع الترويج لأيديولوجيا اليمين المتصلب، في وزارة الخارجية والدبلوماسية ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، وأخيراً في البيت الأبيض.
وخطاب بولتون متوجس دائماً من خصوم أميركا، ويتوجّه باستمرار إلى العقل المتشبث بوحدانية التفوق الأميركي والتصدي للآخر الخطِر بصورة رادعة أو بالقوة إن اقتضى الأمر، مثل إيران وكوريا الشمالية والصين.
من البداية حتى خروجه الأخير من البيت الأبيض إثر خلاف كبير مع الرئيس ترامب، بقي بولتون على هذا الخط. وبدأ بولتون مسيرته مع إدارة الرئيس رونالد ريغان، وكان أحد رموز المحافظين الجدد الذين تزعموا مرحلة سباق التسلح ضد الاتحاد السوفيتي واستعراض القوة في الخارج. ثم عمل مساعداً لوزير الخارجية في إدارة جورج بوش الأب، ليصبح سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أيام بوش الابن ولفترة بسيطة، عاد معها إلى مؤسسة "أميركان إنتربرايز" للدراسات والأبحاث في واشنطن، والتي تشكل أحد معامل الفكر المحافظ.
كما شارك بولتون في أعمال اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري التي تعتبر بمثابة اللجنة المركزية للحزب. ثم انتقل كمعلق في شبكة "فوكس نيوز" التي تنطق باسم يمين الحزب الجمهوري، لينتهي به الأمر مستشارا للأمن القومي للرئيس ترامب، بين إبريل/ نيسان 2018 وسبتمبر/ أيلول 2019، ترك بعدها منصبه على أثر تنامي الخلاف مع الرئيس ترامب حول ملفات خارجية وبالذات ملفات إيران وفنزويلا، حيث شدد على ضروة "تغيير النظامين" ولو بالقوة. كان باستمرار من دعاة الحسم الجذري كدعم استقلال تايوان ومن المتوقعين لاحتكاك عسكري مع الصين في بحر جنوب الصين.
خلال فترة عمله مع الرئيس ترامب اطلع بولتون عن قرب على مجريات السياسة الخارجية وما شهدته من مطبات مع الحلفاء، وإحراجات مع الخصوم، وتصدعات وخلافات داخل الإدارة. في جعبته مخزون كبير من المعلومات الداخلية الهامة عن رئاسة ترامب، والتي كان مجلس النواب يعوّل عليها في تحقيقاته خلال عملية عزل الرئيس في قضية أوكرانيا. لكن بولتون رفض الإدلاء بشهادته وتلطى باعتراض البيت الأبيض، كي يترك أسراره لكتابه الذي صدر، أمس الخميس، والذي جنى منه 2 مليون دولار من دار النشر.
ومن أكثر ما قد ينفّر قسماً من جمهور ترامب المحافظ أنه طلب "مساعدة الرئيس الصيني" للفوز في الانتخابات عن طريق رفع بكين لوارداتها الزراعية الأميركية، وبما يرضي الناخب في الولايات الهامة التي تعتمد على التصدير الزراعي. هذا عدا عن سرديات أخرى محرجة احتلت العناوين وواجهة المداولات، لما فيها من غرائب واعتباطيات زادت من مخاوف الجمهوريين في الكونغرس لئلا تنسحب مردوداتها السلبية ليس فقط على معركة ترامب، بل أيضاً على معركتهم في مجلسي الشيوخ والنواب.