كتب الهزيمة

18 ديسمبر 2014
الغباء لازمٌ لزومَ الذكاء بل هو أصعب منالا (Getty)
+ الخط -

روايتا "1984" لجورج أورويل، و"المحاكمة" لفرانز كافكا، من أهم الأعمال الأدبية التي عالجت هزيمة الفرد أمام النظام. لم يعرف ضابط الشرطة المصري، الذي اعتبر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن حمل طالب جامعي لرواية "1984" تهمة محتملة، أن العمل الروائي الأهم للبريطاني "جورج أورويل" (1903-1950) لا يعتبر من روايات مقاومة الطغيان، بل هي على الأرجح قصة الهزيمة أمامه والتماهي مع أدواته وإفرازاتها.

فالرواية وإن كانت تسخر بشدة من الأنظمة الشمولية على النمط السوفييتي، وتكاد ترى بين سطورها صورة الزعيم السوفييتي الرهيب جوزيف ستالين (1878- 1953)، إلا أنها تنتهي بانتصار النظام على بطل الرواية، انتصار شامل لا يتحقق بموت البطل، وإنما بانسحاقه التام أمام هذا النظام، لدرجة اعترافه أمام نفسه، بأن "أي غشاوة قاسية لم يكن لها داع تلك التي رانت على عقلي، وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون.. وانسالت دمعتان سخيتان على جانبي أنفه؛ وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحب الأخ الأكبر" (1984، طبعة "المركز الثقافي العربي" 2006).

وتحكي رواية "1984" مرحلة القلق والتمرد في حياة "ونستون سميث"، وهو الموظف في وزارة "الحقيقة"، وهي الوزارة المسؤولة عن الإعلام والثقافة في "أوقيانيا" (الدولة المتخيلة في عالم تسيطر عليه ثلاث دول كبرى)، ويقوده القلق إلى الحب ثم إلى مخالفة القانون؛ "لم يكن هناك قانون من الأصل يحدد ما هي المخالفات" بحسب الرواية، لينتهي عائدا إلى "حضن" الأخ الأكبر.

و"الأخ الأكبر" المصطلح الذي نحته أورويل صار أحد أهم الرموز المعبرة عن الديكتاتورية في الأدب الحديث، وهو في الرواية الزعيم الذي توجد صوره في كل مكان، كل مكان بالمعنى الحرفي للكلمة، أي بما يشمل المنازل والطرقات الجانبية وداخل المنازل وأمام بوابات المصاعد، وهو الأمر الذي كان محض خيال وقت نشر الرواية عام 1949 واقترب قادة عرب مثل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي أكثر من غيرهم من تحويله إلى واقع.

والعبارة الأكثر شهرة في الرواية: "الأخ الأكبر يراقبك" تمثل جوهر العمل الذي يدور حول محاولة النظام للإمساك بتفاصيل حياة المواطنين وإحكام السيطرة على عقولهم وأجسامهم ووضعها في ماكينة "الدولة/ الحزب".

ولكن، الرواية التي تعرض عالما مقبضا ليست مقبضة بالمرة، فهي تقدم ذلك العالم بلغة بسيطة وساخرة، فوزارة الداخلية أو الأمن الداخلي في "1984" هي "وزارة الحب" والوزارة التي تعمل مكان وزارات الإعلام والثقافة هي وزارة "الحقيقة"، والسخرية هنا محلها أن هذه الوزارة تعمل فعليا في تزييف الحقائق والتاريخ، فأحد أهم أنشطتها مثلا هو العودة إلى أرشيف الصحف والمواد الإعلامية القريبة لتقوم بتغيير المحتوى الإخباري لها بما يناسب مواقف الحكومة الحالية، فإذا كانت حكومة "أوقيانيا" في حالة حرب مع "أوراسيا" فسيتم محو الكلمات الجميلة التي قيلت بحق الأخوة العميقة بين البلدين والشعبين، ووضع أشد عبارات الكراهية عنفا، أما إذا عقدت سلاما معها واتجهت لمحاربة "استاسيا" فسيتم عمل المثل، محو عبارات المديح الموجهة لشعب وحكومة "استاسيا" وتوجيهها إلى "أوراسيا" وهكذا في متوالية نسف التاريخ وإعادة خلقه، أرشيفياً، بما يلائم رؤية ومصالح النظام القائم.

إن محاولات محو الذاكرة الحديثة تلك التي يذكرها أورويل في (1984) تتضاءل بجانبها محاولات أنصار نظريات المؤامرة في مصر، الذين يحاولون محو صفحات من تاريخ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، واستبدالها بفبركاتهم، ولكن لسوء حظهم، أو لحسن حظ الأجيال القادمة على هذا البلد، فإن هؤلاء لا يملكون قدرات "وزارة الحقيقة" على استبدال سجلات التاريخ.

وتبلغ سخرية جورج أورويل ذروتها في صياغته لشعار الحزب الحاكم في "أوقيانيا": الحرب هي السلام.. العبودية هي الحرية.. الجهل هو القوة.

وعلى العكس من المحاولات الجادة للمقاومة التي يبديها "ونستون سميث" في 1984، فإن "جوزيف ك" بطل رواية "المحاكمة" للتشيكي "فرانز كافكا" (1883-1924) يواجه قدره باستسلام تام.

يواجه "ك" أو (K) في لغة الرواية الأصلية (الألمانية) قضية غير مفهومة، ولا يتم أبدا الإفصاح عن الاتهامات الموجهة إليه، ويواجهها بهدوء يقترب من الاستسلام، ويذعن لاستدعاءات المحكمة واحدا تلو الآخر، والتي تطلق سراحه ثم تعيد استدعاءه، حيث لم يكن الحبس الاحتياطي يستخدم عقوبة بعد؛ حتى في رواية سوداوية مثل "المحاكمة".

يتوقف المؤلف بعد أول صفحة في الرواية عن استخدام الاسم الأول للبطل، ليظل هو "ك" فقط (ت: مصطفى ماهر، طبعة المركز القومي للترجمة 2009)، ليتحول من شخص محدد إلى رمز لإنسان هذا العصر، الذي يستعبده إيمانه بالنظام القائم ليظل دائرا في فلكه حتى يسحقه تماما.

تظل القضية سائرة في مجراها في صورة جدية جدا في رواية "المحاكمة" ولكن دون أن نعرف أبدا الاتهامات أو خطورتها ودون أن يتوقف "ك" عن الاستجابة لاستدعاءات المحكمة، حتى يصدر الحكم بإعدامه، والذي ينفذ بطريقة غير معتادة عن طريق طعنة في القلب، بدون مقاومة منه كدأبه طول الرواية.

ويكاد "ك" يكون بطل "1984" نفسه في نهاية رحلته لكن بدون التفاصيل السياسية الواضحة في الرواية الأخيرة، فهو بإيمانه بالنظام وبالقضاء الشامخ في بلاده، التي لا تحمل اسما يمثل قمة انسحاق الإنسان أمام النظام اللاعقلاني.

إنه الإنسان بعد أن نجح في تمارين الغباء والاستسلام، إنه "ونستون سميث" بعد أن "راح يمرن نفسه على ألا يرى أو يفهم ما يساق من براهين.. ولذلك كانت المسائل الحسابية التي تثيرها عبارة (اثنان واثنان يساويان خمسة) أبعد من أن يتفهمها عقله، وهي تتطلب أيضا شكلا من أشكال رياضة العقل وقدرة على استخدام المنطق إلى أقصى الحدود ثم، وفي اللحظة ذاتها، التعامي عن أوضح المغالطات المنطقة، ومن ثم كان الغباء لازما لزوم الذكاء بل هو أصعب منالا".


*مصر

المساهمون