14 نوفمبر 2024
كردستان، دليلنا إلى رثاثتنا
أبواب التاريخ فُتحت، ربما على مصاريعها، بالنسبة للكرْد؛ بعدما كادت أن تُستأنف في إيران، فأجهضت بالنار، في مهاباد، عام 1946. عدد الكرْد، وهم موزعون، يقارب الثلاثين مليونا. (في تركيا 15 مليونا. في إيران 7 ملايين. في العراق 5 ملايين. في سورية 2 مليون. في تركمانستان وأذربيجيان وأفغانستان وجورجيا ولبنان 655000، عدا شتاتهم في أوروبا وأميركا). حقهم بدولتهم عريق، متأصل في نضالهم وثقافتهم. بدأت قصتهم هذه المرة في العراق. بالحكم الذاتي الذي حماهم من حماقات صدام حسين؛ فذاقوا طعم الاستقلال، بعدما تجرّعوا آلام القتل والتهجير. كانوا "ورقة" يلعب بها، أو يتلاعب، كل من الأنظمة التركية والإيرانية والعراقية والسورية، تارة بمباراة إقليمية في ما بينهم، وتارة أخرى بتزاحم دولي غفير؛ واللعبتان ساخنتان، الدماء فيها مسفوك. ولكن الآن، الجميع يقلق من الاستفتاء على استقلال كردستان العراق الذي قد يُدخل الكرْد التاريخ من باب أوسع. أما لماذا بدأت قصة استقلالهم في العراق بالذات، فذلك لأن النظام العراقي كان السبّاق في تعفّن قوميته، السبّاق في تقرّح استبداديته. عكس النظام التركي الذي حوّله الوساس الكردي، من بين عوامل أخرى ربما، عن ديمقراطيةٍ بدت لسنوات معجزة صرفة، نظراً لجمعها بين الإسلام والديمقراطية. كبر هوسه بالكرْد، فجعله لا يخطو خطوة من دون أن تكون خلفيته المسألة الكردية، في حرب سورية بالذات.
مسؤوليتنا نحن لا تقلّ فداحة. الآن، وقد بلغ الكرْد قدراً من مبتغاهم، ماذا يقول أصحاب الرأي من بيننا حول هذه الخطوة؟ كلهم مبدئيون. ولا واحد منهم يعارض "حق الشعوب في تقرير
مصيرها". ومطوّلات بليغة، تكاد تبعث على الإرتياح. ثم ما هي إلا لحظات حتى ينقطع حديث "المبادئ"، لينقضّ عليكَ الـ"لكن"، برؤوسه المتعددة. "لكن... الوقت غير مناسب"، "الحسابات خاطئة"، "العالم كله ضد الاستفتاء"، "الموضوع ليس ميكانيكياً"، (حجة مبْهمة)، "غضب الدول المعنية به"، و"استعدادها لمقاتلتهم". ثم "خوف" على الكرْد، ممن؟ من الأنظمة التي ينطقون باسمها، يرعون إستراتيجيتها. وكلها تهدّد بإجراءات عقابية في حال استقل الكرْد. يخافون على الكرد، "يريدون مصلحتهم"، أي أن يحموهم من عنف أنظمة هم سائرون خلفها، و"إلى الأبد". نقطة مقتل المبادئ هنا تكمن في الـ"لكن" اللعينة. لعينة لأنها تكشف كذب المبادئ وتخشّبها، بعد تسخيرها في لعبة الأوراق.
وهم أنفسهم، يكرّرون مع مسؤولي تلك الدول التسلطية، التي لا تعرف معنى نظافة الكفّ والتداول الديمقراطي، والمنخرطة، بدرجاتٍ مختلفة، في الحرب على شعوبها، أو على شعوب أخرى، والتي انزلقت آخرها، أي تركيا، نحو التسلطية، بعدما كانت تنمو ديمقراطياً.. ماذا يقول أولئك المناصرون لتلك الدول؟ يطلبون من الكرْد، مع رئيس وزراء العراق، حيدر العبادي، أن "يفتحوا عيونهم على الثغرات الديمقراطية في نظام البارزاني". لا يعجبهم مسعود البارزاني: توريثي سلالي، فاسد، ممدّد لنفسه، أقفل البرلمان، مشروعه "شخصي"، يشبه "حكام الخليج". وإذا حاولت التدقيق في خلفية أولئك المنشدين مع العبادي، ستجد بأنهم مستميتون في "التنظير" لأنظمة ولمليشيات، تقتل شعباً بأكلمه دفاعا عن سلالة الأسد الفاسدة الدموية. لا يعجبهم البارزاني، لا يخضع للمقاييس الديمقراطية المطلوبة. المطلوبة في كردستان وحدها، والمنفية في سورية والعراق وإيران والمنكفئة بخطوات سريعة في تركيا.
حجة أخرى ضد كردستان، إسرائيل. وهنا تحتشد المختصرات "إنها إسرائيل جديدة"، "إسرائيل تراهن على بن غوريون البرزاني"، "إسرائيل تربح..". ثم تحضر "المؤامرة"، تلك العاقبة الكأداء؛ استفتاء كردستان هو "استثمار في النصر السوري" (أي تثبيت بشار الأسد على عرشه المهتز)، هو "لا ينفصل عما يُحاك ضد المقاومة" إلى ما هنالك.. من أخيلةٍ لا تستطيع أن تفكّ لغز التناقض الصارخ القائم بين "المؤامرة الصهيونية" و"وضوح الانتصارات" عليها (ألم تحن بعد لحظة اهتزاز هذه المؤامرة على وقع الإنتصارات المتتالية عليها؟). وهي حجةٌ ضعيفة إلى حدّ أنها لا تشك لحظة واحدة بنفسها، وبأنها صنعت لنفسها عدواً إضافياً، عندما تركت حبل هذه العلاقة يمتد أمام أعينها. فاختصرت "مصالحها" بشوكتها على كرْدها. والتحجّج بإسرائيل يفضي إلى حديث قريب: أولاً، الأنظمة المتلاعبة بورقةٍ أخرى، هي فلسطين، نجحت في قوْلبة العقول المفكرة في أن إسرائيل وكردستان "يد واحدة". فقمعت الكرْد، باسم فلسطين، كما فعلت مع السوريين. وتركتنا نكرههم باسم هذه العلاقة. وبقليل من الخيال، يمكن تصور أن الكرْد احتاجوا إلى إسرائيل لتدعمهم، وإسرائيل إلى الكرد لإنشاء نقطة صديقة في قلب دول "معادية"؛ والإثنان، أي الكرْد والإسرائيليون، كانا يفكران بمصلحة كيانهما. هكذا، أضفنا عدواً جديداً في لائحة أعدائنا: واحدا أصيلا في جنوبنا، وآخر دخيلا في شمالنا.
هل كان يمكن للأنظمة القهرية، التي منعت عن الكرْد دولتهم، ان تنحو غير هذا المنحى؟ كلا، ربما. ولكن كان يمكن لأصحاب الأفكار أن ينسجوا مع الكرْد غير هذه الديباجات التالفة؛ كان يمكن لهم أن يبتعدوا قليلاً عن مرجعيتهم القهرية، فيسرقوا من الإسرائيليين حق الصداقة مع
الشعوب المقهورة. لكنهم أبوا إلا المساهمة في توسيع آفاق "الوحدة" الكردية الإسرائيلية. نقطة أخرى: القضيتان الكردية والفلسطينية متشابهتان. الشعبان كلاهما يتوق إلى بناء دولته. الشعبان محرومان من الأرض والحدود والحقوق، وناضلوا وأخطأوا وأصابوا. والأحرى بهما أن يتضامنا، بصرف النظر عن ألاعيب الأنظمة المندفعة لقتلهم دفاعاً عن "حقوقها". سببٌ آخر للتضامن، ظروف النشأة: إسرائيل تأسست بفضل إرادة الاستعمار البريطاني. وبعْثرة كردستان، وتوزيعها بين أربع دول، حصل بالإرادة ذاتها، مضافاً إليها الفرنسية والأميركية، وفي توقيت متقارب. أي أن تأسيس إسرائيل وتمزيق كردستان يعبّران عن إرادة استعمارية قديمة وجديدة. "مصادفة" تاريخية تنْضح بالكثير. ولكن ثمّة معنى أساسيا في ما يخصنا هنا: وحدة أعداء الشعبين الكردي والفلسطيني، ثم وحدة المتلاعبين بأوراقهما، خدمة لإستراتيجيات خبيثة.
الحجة الأضعف كانت تلك القومية، وهي غير ممثّلة بطرفٍ رسمي. القوميون العرب، الأعتق من الممانعين، ما زال وسواس "المركزية" في صدورهم، وما زالت "العاطفة" القومية عندهم محل تلاعب آخر؛ تلاعب لم يعُد مهيمناً كما كان، ولكنه يصلح "ورقة" درجة ثانية أو ثالثة. و"المركزية" هي نقطة الارتكاز عندهم. وهي، في صلبها تفترض انصهاراً، لم يحصل، ولن يحصل، إلا بالمذابح والأهوال، الكفيلة بإيقاظ هوية ضحاياها. لا أحسب القوميتين الفارسية والتركية أقل عصبيةً من المركزية العروبية، المتداعية أصلاً. بل بالعكس: فالأولى، الفارسية، منتصرة ومتمدّدة، يعني أنها تطمح إلى المزيد، بعد التوطيد؛ والثانية، التركية، استعادت لتوها روحها السلطانية العثمانية، الحالمة باستعادة أمجاد الباب العالي؛ والإثنتان قد تحتاجان الآن إلى مركزيةٍ أعلى شكيمةً من تلك التي كانت تعتمدها إمبراطوريتهما التاريخية. الكرْد شعب قديم، مناضل، ومئة عام من "المركزيات" لم تمحُ أصالة حقه. مثله مثل الفلسطينيين، ولكن قبلهم.
في المبدأ وفي الواقع، ومهما شابت مرحلة ما بعد الاستفتاء من تراجع أو تقدّم، من مماحكات أو تهديدات، فإن الوقوف مع قيام كردستان هو واجب تجاه أنفسنا، قبل غيرنا. فالمسألة الكردية، بعد المسألتَين الفلسطينية والسورية، هي محكّنا، هي مرآتنا، دليلنا إلى رثاثتنا، وإلى النسبة الهائلة من سيوف اللواكن (جمع لكن) الضاربة بعنق عقولنا.
مسؤوليتنا نحن لا تقلّ فداحة. الآن، وقد بلغ الكرْد قدراً من مبتغاهم، ماذا يقول أصحاب الرأي من بيننا حول هذه الخطوة؟ كلهم مبدئيون. ولا واحد منهم يعارض "حق الشعوب في تقرير
وهم أنفسهم، يكرّرون مع مسؤولي تلك الدول التسلطية، التي لا تعرف معنى نظافة الكفّ والتداول الديمقراطي، والمنخرطة، بدرجاتٍ مختلفة، في الحرب على شعوبها، أو على شعوب أخرى، والتي انزلقت آخرها، أي تركيا، نحو التسلطية، بعدما كانت تنمو ديمقراطياً.. ماذا يقول أولئك المناصرون لتلك الدول؟ يطلبون من الكرْد، مع رئيس وزراء العراق، حيدر العبادي، أن "يفتحوا عيونهم على الثغرات الديمقراطية في نظام البارزاني". لا يعجبهم مسعود البارزاني: توريثي سلالي، فاسد، ممدّد لنفسه، أقفل البرلمان، مشروعه "شخصي"، يشبه "حكام الخليج". وإذا حاولت التدقيق في خلفية أولئك المنشدين مع العبادي، ستجد بأنهم مستميتون في "التنظير" لأنظمة ولمليشيات، تقتل شعباً بأكلمه دفاعا عن سلالة الأسد الفاسدة الدموية. لا يعجبهم البارزاني، لا يخضع للمقاييس الديمقراطية المطلوبة. المطلوبة في كردستان وحدها، والمنفية في سورية والعراق وإيران والمنكفئة بخطوات سريعة في تركيا.
حجة أخرى ضد كردستان، إسرائيل. وهنا تحتشد المختصرات "إنها إسرائيل جديدة"، "إسرائيل تراهن على بن غوريون البرزاني"، "إسرائيل تربح..". ثم تحضر "المؤامرة"، تلك العاقبة الكأداء؛ استفتاء كردستان هو "استثمار في النصر السوري" (أي تثبيت بشار الأسد على عرشه المهتز)، هو "لا ينفصل عما يُحاك ضد المقاومة" إلى ما هنالك.. من أخيلةٍ لا تستطيع أن تفكّ لغز التناقض الصارخ القائم بين "المؤامرة الصهيونية" و"وضوح الانتصارات" عليها (ألم تحن بعد لحظة اهتزاز هذه المؤامرة على وقع الإنتصارات المتتالية عليها؟). وهي حجةٌ ضعيفة إلى حدّ أنها لا تشك لحظة واحدة بنفسها، وبأنها صنعت لنفسها عدواً إضافياً، عندما تركت حبل هذه العلاقة يمتد أمام أعينها. فاختصرت "مصالحها" بشوكتها على كرْدها. والتحجّج بإسرائيل يفضي إلى حديث قريب: أولاً، الأنظمة المتلاعبة بورقةٍ أخرى، هي فلسطين، نجحت في قوْلبة العقول المفكرة في أن إسرائيل وكردستان "يد واحدة". فقمعت الكرْد، باسم فلسطين، كما فعلت مع السوريين. وتركتنا نكرههم باسم هذه العلاقة. وبقليل من الخيال، يمكن تصور أن الكرْد احتاجوا إلى إسرائيل لتدعمهم، وإسرائيل إلى الكرد لإنشاء نقطة صديقة في قلب دول "معادية"؛ والإثنان، أي الكرْد والإسرائيليون، كانا يفكران بمصلحة كيانهما. هكذا، أضفنا عدواً جديداً في لائحة أعدائنا: واحدا أصيلا في جنوبنا، وآخر دخيلا في شمالنا.
هل كان يمكن للأنظمة القهرية، التي منعت عن الكرْد دولتهم، ان تنحو غير هذا المنحى؟ كلا، ربما. ولكن كان يمكن لأصحاب الأفكار أن ينسجوا مع الكرْد غير هذه الديباجات التالفة؛ كان يمكن لهم أن يبتعدوا قليلاً عن مرجعيتهم القهرية، فيسرقوا من الإسرائيليين حق الصداقة مع
الحجة الأضعف كانت تلك القومية، وهي غير ممثّلة بطرفٍ رسمي. القوميون العرب، الأعتق من الممانعين، ما زال وسواس "المركزية" في صدورهم، وما زالت "العاطفة" القومية عندهم محل تلاعب آخر؛ تلاعب لم يعُد مهيمناً كما كان، ولكنه يصلح "ورقة" درجة ثانية أو ثالثة. و"المركزية" هي نقطة الارتكاز عندهم. وهي، في صلبها تفترض انصهاراً، لم يحصل، ولن يحصل، إلا بالمذابح والأهوال، الكفيلة بإيقاظ هوية ضحاياها. لا أحسب القوميتين الفارسية والتركية أقل عصبيةً من المركزية العروبية، المتداعية أصلاً. بل بالعكس: فالأولى، الفارسية، منتصرة ومتمدّدة، يعني أنها تطمح إلى المزيد، بعد التوطيد؛ والثانية، التركية، استعادت لتوها روحها السلطانية العثمانية، الحالمة باستعادة أمجاد الباب العالي؛ والإثنتان قد تحتاجان الآن إلى مركزيةٍ أعلى شكيمةً من تلك التي كانت تعتمدها إمبراطوريتهما التاريخية. الكرْد شعب قديم، مناضل، ومئة عام من "المركزيات" لم تمحُ أصالة حقه. مثله مثل الفلسطينيين، ولكن قبلهم.
في المبدأ وفي الواقع، ومهما شابت مرحلة ما بعد الاستفتاء من تراجع أو تقدّم، من مماحكات أو تهديدات، فإن الوقوف مع قيام كردستان هو واجب تجاه أنفسنا، قبل غيرنا. فالمسألة الكردية، بعد المسألتَين الفلسطينية والسورية، هي محكّنا، هي مرآتنا، دليلنا إلى رثاثتنا، وإلى النسبة الهائلة من سيوف اللواكن (جمع لكن) الضاربة بعنق عقولنا.