بعد مشاركتين، أولى بـ"مدام إبليس" (2002) في "نظرة ما"، وثانية بـ"المنحدر الفضّي" (2011) بـ"نصف شهر المخرجين"، في مهرجان "كانّ" السينمائي، فاز البرازيلي كريم عينوز (1966)، عن "الحياة الخفيّة ليوريديس غوسماو" بجائزة "نظرة ما"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) للمهرجان نفسه.
أعماله موزّعة بين روائي طويل ووثائقي. "مطار تيمبلهوف المركزي" (2018)، آخر وثائقيّ له عن اللجوء واللاجئين، معروضٌ في "بانوراما" الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، وحاصلٌ بفضله على جائزة "منظّمة العفو الدولية".
في جديده، يختار كريم عينوز ريو دي جينيرو موقعًا لأحداثه، في خمسينيات القرن الـ20. يتناول موضوعًا مطروقًا بشدّة، في الآونة الأخيرة، وإن يختلف تناوله الفني الذكي والمؤلم معًا: معاناة المرأة، والتسلّط الذكوري. يعرض صورة عامة للمجتمع البرازيلي، ولقهرٍ يُمارَس ضد المرأة منذ عقود طويلة. يتجلّى القمع في إطار بطريركي أبوي: ممارسة تسلّط وقمع وقهر، تجري كلّها داخل أسرة. هذا إسقاط واضح لكيفية تفكير المجتمع، وتصرّفاته إزاء النساء.
الفيلم مستوحى من رواية أولى بالعنوان نفسه (2015)، للصحافية والكاتبة مارتا باتالها. قراءة سريعة لملخصّها، توضح أن المخرج اقتبسها كلّها، ملتزمًا أجواءها العامة والرئيسية: الحبكة نفسها، الشخصيات نفسها، الخطوط العامة المحيطة بها ونهاية حيواتها أيضًا. نجا عينوز من ميلودرامية الحبكة وكليشيهات موضوعها بصعوبة. الإيقاع باهت. الوتيرة متراخية أحيانًا. الأداء يجنح إلى الضعف تارة، وإلى الافتعال تارة أخرى، خصوصًا أداء البطلتين.
هذا يُمكن التغاضي عنه، وعن هنات أخرى شابت الفيلم الاجتماعي ـ الإنساني الرائع. هنات لا تحول دون الاستمتاع بفيلم مؤلم حقًا، وبجمالياته البصرية والموسيقية.
قصّة انفصال يوريديس غوسماو (كارول دوارتي)، ابنة الأعوام الـ18، عن شقيقتها غيدا (جوليا ستوكلر)، التي تكبرها بعامين. قصص انفصال أكثر منها اتصال. في البداية، انسجام وتفاهم بينهما. لغيدا حياة حرّة طليقة. تثق بنفسها. مستقلّة في قراراتها. يوريديس، الخجولة والعقلانية والناضجة، تدافع عن نزق شقيقتها وجنونها، خاصة ضد والدهما مانويل (أنتونيو فونسيكا) وتزمّته وصرامته. تحرّض شقيقتها يوريديس على تحقيق حلمها: السفر إلى النمسا لدراسة الموسيقى أكاديميًا، في "كونسرفاتوار فيينا"، فيوريديس تتمتّع بموهبة العزف على البيانو.
تتمحور الأحداث اللاحقة حول يوريديس، غير الراغبة في الزواج، لكن المرغمة عليه، فالعريس ابن شريك والدها، ولم يخطر ببالها أبدًا أن تُزَفّ له. الموافقة متأتية من رغبةٍ في الفرار من الأهل والمنزل الخالي من شقيقتها، وفي الوقت نفسه، من رغبة في تحقيق حلمها بالسفر والدراسة في فيينا. تحاول يوريديس أن تكون زوجة مطيعة قدر المستطاع، شرط ألّا تحمل، كي لا يتعطّل مستقبلها.
فجأة، تعود غيدا إلى المنزل وهي حامل، فاليونانيّ تخلّى عنها قبل الزواج بها. بالكاد استطاعت العودة إلى البرازيل. يطردها والدها، بعد إعطائه إياها بعض المال. عندما تحاول والدتها الدفاع عنها، للمرة الأولى، أو محاولة تهدئة الأمور، يُهدّدها زوجها باللحاق بها، فتصمت. عندما تُلحّ غيدا في السؤال عن شقيقتها، يخبرها الوالد بأنها في فيينا للدراسة.
يتابع الفيلم مسارها الحياتي. تنجب طفلاً، وتتحمّل نفقات العيش، وتربّيه، في ظلّ معاناة حياتية. في المقابل، هناك يوريديس وحملها وانهماكها في الحياة الزوجية، وتشبّثها بحلم دراسة البيانو، وممارستها العزف، ورغبتها الخافتة في السفر إلى فيينا. بالإضافة إلى زيارات عابرة إلى منزل والديها، وسؤالها عن شقيقتها، بين حين وآخر. يكذب الأب، المُتحجّر القلب، كما يفعل مع شقيقتها. لكن، لأعوام طويلة تنتهي بوفاتها، تبقى الوالدة صامتة. هذا مُثيرٌ للريبة والغرابة، فهل هذا كلّه نتاج خوفٍ من عنف الزوج الأب وقهره، أم أن لها معه التفكير نفسه؟
لن تلتقي يوريديس شقيقتها غيدا أبدًا، رغم عيشهما أعوامًا طويلة في مدينة واحدة. أكثر من مرة، يلعب القدر لعبته، بعد أن تجمعهما الصدفة، التي ستجمع عرضًا ابن غيدا بابنة يوريديس، دقائق قليلة في مطعم.
جمال الفيلم كامنٌ في أنّ ذكاء المخرج يتجلّى في حرصه على عدم حدوث اللقاء. تُرسل غيدا رسائل كثيرة إلى شقيقتها، أعوامًا عديدة، لعلّ قلب الأب يرقّ، ويحوّل الرسائل إليها. رغم عدم تلقّيها رسالة واحدة، لم تملّ من الكتابة. تُكلّف يوريديس مُحقّقًا للبحث عن شقيقتها. بعد إخباره إياها بفشله، يُعلمها فجأة بوفاتها. تذهب إلى قبرها، وتقرأ اسمها، وتكتشف كذبة والدها. لكن يوريديس لم تمت، فهي تحمل اسم صاحبة نزلٍ كانت تعيش فيه، أورثتها منزلها قبل وفاتها. كانت لها ولابنها أمًّا حقيقية، وتعويضًا عن أسرتها. ما يُثير أن يوريديس تعثر، صدفة، عند بلوغها 90 عامًا، أن إحداهنّ أخفت الرسائل، واضعةً إياها بين أغراض العائلة. هذا يُذهلها. عندها، تُدرك أنها فقدت شقيقتها أكثر من مرة.