كانت الساعة الفنلندية تقارب منتصف النهار، عندما دخل شاب في الثامنة عشر من العمر إلى مدرسته في توسبي، وهي مدرسة للدراسات المتوسطة والثانوية ـ وبدأ بإطلاق النار على التلاميذ المتواجدين في الصفوف، فقتل خمسة صبيان وفتاتين، بالإضافة إلى مديرة المدرسة، قبل أن يطلق النار على رأسه.
كان بيككا إريك أوفينين، مرتكب الجريمة، يملك تصريحاً لحمل السلاح، وقد أبدى في منشوراتٍ كتبها سابقاً على صفحته الإلكترونية أنه محبٌّ للعنف، ولديه رغبة بمحو جميع من يراهم غير جديرين بالحياة، أو من يشكّلون عاراً على البشرية من وجهة نظره.
بالإضافة إلى كتاباته نشر أوفيينين، على صفحة "يوتيوب"، مقطع فيديو يُظهر فيه استعداده ونواياه لارتكاب الجريمة في المدرسة. إلا أن أحداً لم يعره اهتماماً، إلا بعد فوات الأوان.
لاحقاً، أعلنت الشرطة، على لسان محقق الأدلة الجنائية، أن الفتى كان يعاني من مشكلة نفسية تتجلى في العدائية تجاه المجتمع، وأنه ينشد القضاء على الظلم، ويريد أن يتخلص من كل من لا يعتقد أنه مفيد.
خرجتُ صباحاً بدافع الفضول كي أشاهد ردود الفعل الشعبية حول الموضوع، وذلك لما أعرفه عن تعاطف الشعب الفنلندي وتعاضده حين تلم به نائبة. وفعلا،ً كانت الشموع المشتعلة تضيء ضفاف البحيرات، والأعلام الوطنية والحزبية منكّسة، بينما كانت تجمعات للشباب تحتل زوايا الشوارع وتحمل لافتات رثائية، ولافتات تطالب الحكومة باتخاذ وسائل تحول دون تكرار الحادثة. بعض النساء المسنّات مررنَ قربي متشحاتٍ بالسواد والدموع تملأ عيونهن.
شاهدتُ كل ذلك، فانتقلتْ عدوى الحزن إلى قلبي. مشيتُ ساهماً حتى وصلتُ مقعداً خشبيّاً في حديقة نائية، بدأت الأفكار المؤلمة تتوارد إلى ذهني كرشقات الرصاص التي عانيت من سماعها في سوريا كثيراً، قبل أن أستطيع الوصول إلى هذا البلد الوديع.
تساءلتُ: ترى كيف استطعنا تجاهل الآلاف المؤلفة من مقاطع العنف التي بُثت في فيديوهات تحريضية طيلة تلك السنين؟ كيف تحوّلت أغاني الربيع العربي إلى طبول حربية؟ كيف أمكننا الاعتياد على البغض والحقد دون أن نحرّك ساكناً؟ كيف قوبل هواء الربيع بغاز كيماوي؟ الأهم من كل ذلك؛ ما هو مصير كل هؤلاء الأطفال الذين عايشوا الحرب، فوقع عليهم ما وقع من عنفٍ مُمنهج؟
أتذكّر مرة كيف أن طفلاً هجم على عمود كهرباء معدني في حارتي المحاصرة بالدبابات، والتي عرفها العالم باسم "بابا عمرو"، وبدأ بنطح العمود برأسه. كان كالدونكيشوت الذي يحارب طواحين الهواء. ترى هل سنعيش لنشاهد العشرات من الأطفال الذين سيطلقون لعناتهم على التاريخ والمستقبل، قبل أن يفجّروا رؤوسهم؟
لم يقطع سلسلة أفكاري سوى لحساتٍ متقطعةٍ لحذائي بلسان كلب أسود ظريف. اقترب مني دون أن أنتبه إليه، فاعتذرتْ صاحبته بلطفٍ وقالت لي: "اعذره، فهو لم يعتد على الغرباء بعد، فقد تأخرتُ عليه في نزهته اليومية يومين كاملين".
ابتسمتُ. مضيت وأنا أفكر: "لا بأس، فأنا كعربيّ حرمتُ من نزهتي ثلاثين سنة، ولكني مرتاح لفكرة وحيدة الآن، أنني أرفض أن ألعق بعد الآن أي حذاء".