07 اغسطس 2024
كل هذا الإنفاق العربي على الأمن
تكشف متابعة إنفاق الدول العربية على أمنها القومي ظواهر غير منطقية، يصعب تفسيرها بسهولة، حيث لا يرتبط الإنفاق الباهظ لبعض الدول العربية، أو كثير منها، على أمنها القومي، بحجمها، أو بتهديدات مباشرة تتعرّض لها، أو بحجم إنفاق خصومها المحتملين، حيث تنفق تلك الدول نسبا لا يستهان بها من دخلها وميزانياتها السنوية على التسليح والأمن، من دون أسباب ظاهرة، ما يستدعي وقفة، بحثا عن تفسيرات أكثر عمقا.
بدايةً، يجب إيضاح أن الإنفاق على الأمن القومي يتخطى الإنفاق على شراء الأسلحة إلى الإنفاق على الجيوش بصفة عامة من سلاح وتدريب وتطوير، وعلى الأمن الداخلي ومؤسساته المختلفة.
وتقول دراسة أصدرها العام الجاري مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، ومقره واشنطن، أن دول المنطقة من أعلى دول العالم إنفاقا على أمنها، إذا تنفق في المتوسط 6% أو أكثر من دخلها السنوي على الدفاع، وهي نسبة تعد ضعف ما تنفقه دولة، كالولايات المتحدة، وثلاثة أضعاف ما تنفقه دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أمنها في المتوسط. حيث أنفقت دول المنطقة 181 مليار دولار على شؤون الدفاع في عام 2014 تراجعت إلى 176 مليار في 2015 و141 مليار في 2016، بسبب هبوط أسعار النفط بأكثر من 50%، ومع ذلك لم يتراجع إنفاق دول المنطقة على الأمن بالنسبة نفسها، بل ظلت معدلات الإنفاق العسكري مرتفعة للغاية.
وقد يعتقد بعضهم أن هذا الإنفاق يرتبط فقط بالأزمات الأمنية العاصفة التي تمر بها دول، مثل
سورية والعراق واليمن وليبيا، أو بتحدي جماعات مثل داعش والقاعدة، أو بالصراع مع دول، كإسرائيل أو إيران، وجميعا تفسيرات سائدة ولها دورها، لكن التدقيق في الصورة يترك المتابع أمام تفاصيل أكثر تعقيدا. فعلى سبيل المثال، تحتل دولتان، كالجزائر وعُمان، مكانة متقدمة للغاية وسط الدول العربية الأكثر إنفاقا على أمنها، نسبة من دخلها القومي، على الرغم من عدم انخراط الدولتين حاليا في صراعات أمنية ظاهرة، فالجزائر مثلا أنفقت في عام 2015 أكثر من عشرة مليارات دولار على الدفاع، ما يعادل 6.2% من دخلها القومي، و14% من إنفاقها الحكومي، على الرغم من معاناة الميزانية الجزائرية من عجز قدره 11%. أما عُمان فأنفقت في 2015 حوالي 10 مليارات على الدفاع، ما يعادل 16% من دخلها القومي، و28% من إنفاقها الحكومي، على الرغم من معاناة ميزانيتها عجزا قدره 17%.
كما تنفق دول عربية بشراهة على أمنها، بشكلٍ لا يتناسب مع حجمها، أو عدد سكانها، ما أدى إلى اختلال واضح في ميزان الإنفاق العسكري والتسليح لصالح دول صغيرة، أنفقت بسخاء على أمنها القومي في السنوات الأخيرة، فمصر، وهي أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان وحجم قواتها العسكرية (حوالي 400 ألف فرد) تنفق، خلال السنوات الثلاث الماضية، حوالي خمسة مليارات دولار سنويا في المتوسط على ميزانيتها العسكرية، ما يعادل حوالي 2% من دخلها القومي، وبمعدل حوالي 70 دولارا في المتوسط، تكلفة لحماية أمن كل مواطن مصري. وفي المقابل، أنفقت قطر، وهي دولة صغيرة، خلال السنوات نفسها، ما يعادل الإنفاق المصري من حيث الكم، وبنسبة تبلغ 3% من دخلها القومي، على الرغم من صغر تعداد جيشها للغاية مقارنة بالجيش المصري. وتنفق عُمان والجزائر ضعف الإنفاق المصري، والعراق ثلاثة أضعاف، والإمارات أربعة، أما السعودية فأنفقت خلال الفترة نفسها أكثر من عشرة أضعاف الإنفاق المصري سنويا على التسليح والدفاع، حيث بلغ إنفاقها في عام 2016 أكثر من 56 مليار دولار، وذلك بعد أن تراجع كثيرا مقارنة بعام 2015 تأثرا بانخفاض أسعار النفط حيث أنفقت السعودية في ذلك العالم أكثر من 81 مليار دولار.
وقد أدى هذا الإنفاق إلى امتلاك بعض الدول العربية الصغيرة أنظمة تسلح متقدمة للغاية، مقارنة بدول أكبر حجما وتعدادا ومكانة استراتيجية وأقل قدرة على شراء الأسلحة، ويترتب على ذلك اختلال التوازن الأمني في المنطقة، في غياب نظم أمنية شاملة وحاكمة. أضف إلى ذلك أن إنفاق بعض الدول العربية على الأمن يفوق بكثير إنفاق خصومها المحتملين، فإسرائيل مثلا أنفقت، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يتراوح بين 15-20 مليارا سنويا على الدفاع، وهي تقريبا حجم إنفاق دولة كالإمارات، وأقل من نصف ما أنفقته السعودية. ومع ذلك، تمتلك إسرائيل تفوقا نوعيا مقارنة بمختلف الدول العربية، بسبب الدعم الأميركي الضامن لذلك، ولا تنفق إسرائيل معظم تلك الأموال على شراء الأسلحة من الخارج، كما تفعل الدول العربية، بل تمتلك إسرائيل صناعة أسلحة محلية متطورة.
ينطبق الأمر نفسه، إلى حد ما، على إيران، والتي تنفق على أمنها حوالي 15 مليار دولار
سنويا، وتعاني من عقوبات صارمة منعتها عقودا من استيراد أسلحة متطورة. ومع ذلك، حققت أخيرا توسعا استراتيجيا في دول، كالعراق وسورية واليمن ولبنان، بسبب طبيعة سياساتها الخارجية والأمنية، مع أن إنفاقها يقل كثيرا عن إنفاق الدول الخليجية المنافسة لها، حيث تنفق دولتان، كالسعودية والإمارات، مجتمعتين حوالي 4-5 أضعاف الإنفاق الإيراني سنويا خلال السنوات الأخيرة.
وتقود الظواهر السابقة إلى محاولة فهم أسباب هذا الإنفاق الباهظ، وأين تذهب كل هذه الأموال، ولماذا لا تنعكس على القدرات الأمنية للدول العربية المختلفة، وهذا يقود إلى ثلاثة تفسيرات أساسية:
أولا: القدرات الدفاعية تتخطى بكثير حجم أسلحة الجيوش وكمها، فقد تمتلك بعض الدول كميات ضخمة من الأسلحة الحديثة والباهظة، تفوق قدرة جيوشها على استيعابها بسبب تعداد تلك القوات، أو مستوى تدريبها، أو طبيعة المؤسسات العسكرية نفسها، ومدى امتلاكها القيادة والرؤية الاستراتيجية والسياسات القادرة على تحقيق تلك الرؤى، كما أن للأمن بعدا داخليا، يتعلق بمدى استقرار الدولة ومؤسساتها ورضا مواطنيها، فقد تمتلك نظم، سورية وليبيا، أسلحة ونظما أمنيا ضخمة، ومع ذلك لا تصمد أمام الضغوط الداخلية والخارجية، بفعل عدم رضا مواطنيها.
ثانيا: إنفاق بعض الدول العربية بات يرتبط بسباقات تسلح وتهديدات داخلية بين الدول العربية نفسها، كما يظهر في الحالة القطرية، والتي تتجه نحو التسلح والإنفاق العسكري بمعدلات عالية منذ عام 2014 تقريبا، بسبب الضغوط المتزايدة عليها من جيرانها.
ثالثا: يبدو الإنفاق العسكري الباهظ للدول العربية مرتبطا، في أهم أسبابه، بطبيعة النظم العربية نفسها، بوصفها نظما تعاني من مخاوف وجودية على أمنها واستقرارها، فغالبية الدول العربية حديثة تشكلت حدودها خلال الحقبة الاستعمارية، وحصلت على استقلالها منذ عقود قليلة، وتفتقر للمؤسسات الداخلية، والتوافق السياسي الضامن لاستقرارها. لذا يتسم إنفاقها بالشراهة والفردية والتنافس المحموم.
فبدلا من أن تتفق الدول العربية على منظومة أمن إقليمية أو دولية، تضمن لها الأمن والاستقرار، وخفض نفقاتها الدفاعية وتوجيه ميزانياتها نحو التعليم والصحة والاقتصاد، تجدها عاجزةً عن الثقة في بعضها، وغير قادرة على العمل الجماعي، مكتفية بتحالفاتٍ إقليمية مؤقتة ومتغيرة، تفضل عليها الضمانات الأمنية الخارجية، وإن كانت لا تكتفي بها، بل تسعى إلى تكديس أكبر قدر من الأسلحة الباهظة، باعتبار ذلك نوعا من الشعور بالأمن، فعدم شعور تلك الأنظمة بالثقة الداخلية والاستقرار يجعلها تختصر الأمن في صوره الأكثر مادية.
بدايةً، يجب إيضاح أن الإنفاق على الأمن القومي يتخطى الإنفاق على شراء الأسلحة إلى الإنفاق على الجيوش بصفة عامة من سلاح وتدريب وتطوير، وعلى الأمن الداخلي ومؤسساته المختلفة.
وتقول دراسة أصدرها العام الجاري مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، ومقره واشنطن، أن دول المنطقة من أعلى دول العالم إنفاقا على أمنها، إذا تنفق في المتوسط 6% أو أكثر من دخلها السنوي على الدفاع، وهي نسبة تعد ضعف ما تنفقه دولة، كالولايات المتحدة، وثلاثة أضعاف ما تنفقه دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أمنها في المتوسط. حيث أنفقت دول المنطقة 181 مليار دولار على شؤون الدفاع في عام 2014 تراجعت إلى 176 مليار في 2015 و141 مليار في 2016، بسبب هبوط أسعار النفط بأكثر من 50%، ومع ذلك لم يتراجع إنفاق دول المنطقة على الأمن بالنسبة نفسها، بل ظلت معدلات الإنفاق العسكري مرتفعة للغاية.
وقد يعتقد بعضهم أن هذا الإنفاق يرتبط فقط بالأزمات الأمنية العاصفة التي تمر بها دول، مثل
كما تنفق دول عربية بشراهة على أمنها، بشكلٍ لا يتناسب مع حجمها، أو عدد سكانها، ما أدى إلى اختلال واضح في ميزان الإنفاق العسكري والتسليح لصالح دول صغيرة، أنفقت بسخاء على أمنها القومي في السنوات الأخيرة، فمصر، وهي أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان وحجم قواتها العسكرية (حوالي 400 ألف فرد) تنفق، خلال السنوات الثلاث الماضية، حوالي خمسة مليارات دولار سنويا في المتوسط على ميزانيتها العسكرية، ما يعادل حوالي 2% من دخلها القومي، وبمعدل حوالي 70 دولارا في المتوسط، تكلفة لحماية أمن كل مواطن مصري. وفي المقابل، أنفقت قطر، وهي دولة صغيرة، خلال السنوات نفسها، ما يعادل الإنفاق المصري من حيث الكم، وبنسبة تبلغ 3% من دخلها القومي، على الرغم من صغر تعداد جيشها للغاية مقارنة بالجيش المصري. وتنفق عُمان والجزائر ضعف الإنفاق المصري، والعراق ثلاثة أضعاف، والإمارات أربعة، أما السعودية فأنفقت خلال الفترة نفسها أكثر من عشرة أضعاف الإنفاق المصري سنويا على التسليح والدفاع، حيث بلغ إنفاقها في عام 2016 أكثر من 56 مليار دولار، وذلك بعد أن تراجع كثيرا مقارنة بعام 2015 تأثرا بانخفاض أسعار النفط حيث أنفقت السعودية في ذلك العالم أكثر من 81 مليار دولار.
وقد أدى هذا الإنفاق إلى امتلاك بعض الدول العربية الصغيرة أنظمة تسلح متقدمة للغاية، مقارنة بدول أكبر حجما وتعدادا ومكانة استراتيجية وأقل قدرة على شراء الأسلحة، ويترتب على ذلك اختلال التوازن الأمني في المنطقة، في غياب نظم أمنية شاملة وحاكمة. أضف إلى ذلك أن إنفاق بعض الدول العربية على الأمن يفوق بكثير إنفاق خصومها المحتملين، فإسرائيل مثلا أنفقت، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يتراوح بين 15-20 مليارا سنويا على الدفاع، وهي تقريبا حجم إنفاق دولة كالإمارات، وأقل من نصف ما أنفقته السعودية. ومع ذلك، تمتلك إسرائيل تفوقا نوعيا مقارنة بمختلف الدول العربية، بسبب الدعم الأميركي الضامن لذلك، ولا تنفق إسرائيل معظم تلك الأموال على شراء الأسلحة من الخارج، كما تفعل الدول العربية، بل تمتلك إسرائيل صناعة أسلحة محلية متطورة.
ينطبق الأمر نفسه، إلى حد ما، على إيران، والتي تنفق على أمنها حوالي 15 مليار دولار
وتقود الظواهر السابقة إلى محاولة فهم أسباب هذا الإنفاق الباهظ، وأين تذهب كل هذه الأموال، ولماذا لا تنعكس على القدرات الأمنية للدول العربية المختلفة، وهذا يقود إلى ثلاثة تفسيرات أساسية:
أولا: القدرات الدفاعية تتخطى بكثير حجم أسلحة الجيوش وكمها، فقد تمتلك بعض الدول كميات ضخمة من الأسلحة الحديثة والباهظة، تفوق قدرة جيوشها على استيعابها بسبب تعداد تلك القوات، أو مستوى تدريبها، أو طبيعة المؤسسات العسكرية نفسها، ومدى امتلاكها القيادة والرؤية الاستراتيجية والسياسات القادرة على تحقيق تلك الرؤى، كما أن للأمن بعدا داخليا، يتعلق بمدى استقرار الدولة ومؤسساتها ورضا مواطنيها، فقد تمتلك نظم، سورية وليبيا، أسلحة ونظما أمنيا ضخمة، ومع ذلك لا تصمد أمام الضغوط الداخلية والخارجية، بفعل عدم رضا مواطنيها.
ثانيا: إنفاق بعض الدول العربية بات يرتبط بسباقات تسلح وتهديدات داخلية بين الدول العربية نفسها، كما يظهر في الحالة القطرية، والتي تتجه نحو التسلح والإنفاق العسكري بمعدلات عالية منذ عام 2014 تقريبا، بسبب الضغوط المتزايدة عليها من جيرانها.
ثالثا: يبدو الإنفاق العسكري الباهظ للدول العربية مرتبطا، في أهم أسبابه، بطبيعة النظم العربية نفسها، بوصفها نظما تعاني من مخاوف وجودية على أمنها واستقرارها، فغالبية الدول العربية حديثة تشكلت حدودها خلال الحقبة الاستعمارية، وحصلت على استقلالها منذ عقود قليلة، وتفتقر للمؤسسات الداخلية، والتوافق السياسي الضامن لاستقرارها. لذا يتسم إنفاقها بالشراهة والفردية والتنافس المحموم.
فبدلا من أن تتفق الدول العربية على منظومة أمن إقليمية أو دولية، تضمن لها الأمن والاستقرار، وخفض نفقاتها الدفاعية وتوجيه ميزانياتها نحو التعليم والصحة والاقتصاد، تجدها عاجزةً عن الثقة في بعضها، وغير قادرة على العمل الجماعي، مكتفية بتحالفاتٍ إقليمية مؤقتة ومتغيرة، تفضل عليها الضمانات الأمنية الخارجية، وإن كانت لا تكتفي بها، بل تسعى إلى تكديس أكبر قدر من الأسلحة الباهظة، باعتبار ذلك نوعا من الشعور بالأمن، فعدم شعور تلك الأنظمة بالثقة الداخلية والاستقرار يجعلها تختصر الأمن في صوره الأكثر مادية.