02 نوفمبر 2024
كل هذه الكراهية في الإعلام التونسي
عرف المشهد الإعلامي في تونس، بعد الثورة/ نقلة كمّية ظاهرة، فتعدّدت وسائل الاتّصال ومنابر التعبير بشكل غير مسبوق، وخرجت البلاد من حقبة إعلام الحزب الواحد، ولغة التمجيد المكرورة، لينفتح الباب واسعا لإشراك المواطنين في الجدل الدائر بشأن قضايا الشأن العام. لكنّ الإشكال ماثلٌ في أنّ الانتقال من الأحاديّة إلى التعدّدية لم يواكبه التزام عامّ بمعايير المهنية وبأسباب النزاهة والموضوعية في التعاطي مع الأحداث والأشخاص والظواهر مدار التحليل والجدل.
والملاحظ بعد سنوات من حركة البناء الديمقراطي أنّ منابر إعلاميّة تونسية ما زالت ميّالة إلى إذكاء خطاب الكراهية وإعمال سياسات الإقصاء، ونشر خطاب القذف على الهواء، فترى وتسمع وتقرأ عبارات من قبيل "موتوا بغيظكم" و"لن تمرّوا" و"جمهوريّة الموز" و"سننتقم" و"سنثأر" و"لا بدّ من استئصال هؤلاء أو أولئك"، وتتواتر في الخطاب الإعلامي نعوت "ظلاميّ" و"كافر" و"رجعي" و"مبتدع" و"عميل" و"خائن". ويحتكر آخرون صفات تندرج في حيّز التقدميّة: حداثي، ومنفتح، وحضاري، ومعتدل. وهذه الأحكام معياريّة، وتخضع للتنسيب بامتياز، وليس من الموضوعيّة في شيء احتكار التقدّم أو نعت الآخرين بالرجعيّة على أساس خلفيّات أيديولوجيّة وصراعات حزبيّة تنبني على مجافاة الواقع وإصدار الأحكام المسبقة على الأشياء والأشخاص والظّواهر. وبدل أن يؤسّس الإعلام لثقافة جديدة، قوامها الانفتاح
والاعتدال والتعدّد، ولزوم الحياد، وانتهاج نهج الدقّة والموضوعيّة قصد تعزيز ثقافة الاختلاف والتعايش، تجد موادّ فرجويّة وبرامج حواريّة تقوم على الإثارة وقصديّة الشّحن وتجييش العواطف وتحريك النّزعات العصبيّة والميول الانفعاليّة عند جمهور المتلقّين. ومعلوم أنّ الإعلام، بأشكاله المختلفة وقنواته المتعدّدة، يساهم، باعتباره أداة تواصل وفضاء تعبير، في تشكيل الوعي الجمعي، وفي هندسة سلوك الفرد والجماعة. ومن ثمّة، فإنّ انزياح الفعل الإعلامي عن الموضوعية وضوابط أخلاق المهنة، وانسياقه إلى دوائر الكراهية والتعصّب قد يؤدّي إلى تهديد السّلم الاجتماعي، وإلى تحريض النّاس بعضهم على بعض، على نحو تنفصم معه عُرى التعايش وأسباب التّواصل داخل الاجتماع المدني. وكان تقرير أصدرته المجموعة العربية لرصد الإعلام وجمعيتان تونسيتان (المجلس الوطني للحرّيات وشبكة تحالف من أجل نساء تونس) قد نبّه إلى أنّ 90% من الصحف التونسية الناطقة بالعربية تتضمّن خطابا يحثّ على الكراهية، و13% من وسائل الإعلام فيها دعوة صريحة أو مضمّنة لاستخدام العنف، و58% من المنابر الإعلامية تبثّ خطابا مثيرا للنعرات الحزبية أو الدينية. ولفت مرصد أخلاقيات المهنة التابع لنقابة الصحفيين النظر مرّات إلى مئات الإخلالات المشهودة في الإعلام التونسي بعد الثورة، والمتعلّقة بالوصم والشتم، والتحقير والتكفير، والتمييز على أساس الهوية والدعوة الصريحة إلى العنف. كما صدرت عن الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري عشرات القرارات العقابية ضدّ مؤسّسات إعلامية مختلفة، بسبب بثها الكراهية وانتهاكها الكرامة الإنسانية.
والثابت أنّ بعض الحملات الإعلامية محكومة بأجندة مخصوصة، من قبيل تبييض الدكتاتورية وتيئيس الناس من الديمقراطية، أو الانتصار إلى طرف حزبي على حساب آخر، أو تأليب
الرأي العام على الحراك الاحتجاجي. وتكمن خطورة هذه الحملات الموجّهة في أنّها تتقصّد التعتيم على الحقيقة، وتنزلق في مهواة ترويج ثقافة العنف والعنف المضادّ، فبدل التعالي عن الحزبيّة الضيّقة والعصبيّة المقيتة والإثارة الفجّة، يعمد بعضهم إلى استغلال حدث اغتيال سياسي أو اعتصام احتجاجي لتغذية أسباب الاستقطاب والتنافي داخل المجتمع الواحد، وبدل الدّعوة إلى ضبط النّفس، والتماس أسباب الوحدة الوطنيّة، والحرص على تماسك البناء الاجتماعي، في مواجهة تحدّيات جمّة، تستغلّ منابر إعلاميّة السقف العالي لحرّية التعبير في البلاد، لتنخرط في مشروع شيطنة الآخر، وتفتح شاشاتها للتنابز بالألقاب، وتوجيه التّهم يمينا وشمالا في غير رويّة ومن دون حجّة. ويتمّ حشر قوى ثورية في حمأة الأزمات المشهودة في البلاد، وتحميلها كلّ نواقص الماضي والحاضر، وكلّ مجاهل المستقبل.
بل لا يتورّع آخرون في صناعة الإشاعة وبعث الشكّ في النّفوس، وتوجيه التّهم لشخصيات وجماعات وهيئات سياديّة من دون الارتكان إلى سند موضوعي، على سبيل الرّغبة في الشّهرة، أو البحث عن الضجّة الإعلامية، أو خدمة لأجندة مخصوصة في الدّاخل أو الخارج.
هذا النمط من الإعلام المدجّج بالإشاعة، والمحكوم بسلطة بارونات المال والأعمال وأعلام الأيديولوجيا المغلقة يحجُب الحقائق، ولا يخدم مطلب الشفافية، بل يسلّط على المواطن عنفا رمزيّا مردّه كثرة المغالطات والإشاعات وحدّة خطاب الكراهية بما له من تداعيات سلبية على الاجتماع التونسي. لذلك، الحاجة أكيدة إلى بلورة انتقال إعلامي رشيد، يعزّز مكسب التعدّدية بمطلب الموضوعية واحترام الآخر، ويرفد الحرّية بالمسؤولية، تحقيقا لديمقراطيّة تعبيرية بنّاءة.
والملاحظ بعد سنوات من حركة البناء الديمقراطي أنّ منابر إعلاميّة تونسية ما زالت ميّالة إلى إذكاء خطاب الكراهية وإعمال سياسات الإقصاء، ونشر خطاب القذف على الهواء، فترى وتسمع وتقرأ عبارات من قبيل "موتوا بغيظكم" و"لن تمرّوا" و"جمهوريّة الموز" و"سننتقم" و"سنثأر" و"لا بدّ من استئصال هؤلاء أو أولئك"، وتتواتر في الخطاب الإعلامي نعوت "ظلاميّ" و"كافر" و"رجعي" و"مبتدع" و"عميل" و"خائن". ويحتكر آخرون صفات تندرج في حيّز التقدميّة: حداثي، ومنفتح، وحضاري، ومعتدل. وهذه الأحكام معياريّة، وتخضع للتنسيب بامتياز، وليس من الموضوعيّة في شيء احتكار التقدّم أو نعت الآخرين بالرجعيّة على أساس خلفيّات أيديولوجيّة وصراعات حزبيّة تنبني على مجافاة الواقع وإصدار الأحكام المسبقة على الأشياء والأشخاص والظّواهر. وبدل أن يؤسّس الإعلام لثقافة جديدة، قوامها الانفتاح
والثابت أنّ بعض الحملات الإعلامية محكومة بأجندة مخصوصة، من قبيل تبييض الدكتاتورية وتيئيس الناس من الديمقراطية، أو الانتصار إلى طرف حزبي على حساب آخر، أو تأليب
بل لا يتورّع آخرون في صناعة الإشاعة وبعث الشكّ في النّفوس، وتوجيه التّهم لشخصيات وجماعات وهيئات سياديّة من دون الارتكان إلى سند موضوعي، على سبيل الرّغبة في الشّهرة، أو البحث عن الضجّة الإعلامية، أو خدمة لأجندة مخصوصة في الدّاخل أو الخارج.
هذا النمط من الإعلام المدجّج بالإشاعة، والمحكوم بسلطة بارونات المال والأعمال وأعلام الأيديولوجيا المغلقة يحجُب الحقائق، ولا يخدم مطلب الشفافية، بل يسلّط على المواطن عنفا رمزيّا مردّه كثرة المغالطات والإشاعات وحدّة خطاب الكراهية بما له من تداعيات سلبية على الاجتماع التونسي. لذلك، الحاجة أكيدة إلى بلورة انتقال إعلامي رشيد، يعزّز مكسب التعدّدية بمطلب الموضوعية واحترام الآخر، ويرفد الحرّية بالمسؤولية، تحقيقا لديمقراطيّة تعبيرية بنّاءة.