كن ذراعاً إعلامياً وإلا قطعناك!
قال أحمد بهاء الدين للصحفيين الغاضبين من هيكل: "إذا كنتم تريدون أن نجتمع في مجلس النقابة ونهاجم هيكل فأنا غير مستعد لذلك، فلو أن واحداً منا في مكان هيكل وحصل على ما يحصل عليه من أخبار، لما وزعها على سائر الصحف، أما إذا كنتم مستعدين لأن نتجه بالاحتجاج إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي يخص بهذه الأخبار الكبرى صحيفة دون أخرى فأنا مستعد".
قام أحمد بهاء الدين بجمع مجلس نقابة الصحفيين مرتين، مرة لكتابة احتجاج يتم رفعه إلى الرئيس عبد الناصر على فرض الرقابة على الصحف، مستشهدين بأن مصر واجهت العدوان الثلاثي دون رقابة مفروضة على الصحف، ثم اجتمع المجلس مرة أخرى لكتابة مذكرة تم رفعها إلى عبد الناصر، تسجل رأي النقابة في أن هناك نوعا من الاخبار يجوز فيه السبق الصحفي وانفراد صحيفة دون غيرها، لكن هناك نوعاً آخر من الأخبار، يتعلق بالمصالح القومية العليا في هذه الظروف الحساسة، ويتذكر أحمد بهاء الدين أنه كتب في تلك المذكرة المحفوظة في سجلات نقابة الصحفيين أن "رئيس الدولة إذ يخص بهذه الأخبار جريدة دون أخرى فكأنما هو يميز بين المواطنين الذين يقرأون هذه الجريدة أو غيرها".
قام أحمد بهاء الدين بتسليم المذكرتين لعبد المحسن أبو النور القائم بعمل أمين عام الاتحاد الاشتراكي، الذي قال له بعد كل مذكرة إن عبد الناصر قرأ المذكرة وقال إنه موافق على ما فيها "لكنها ظروف طارئة يرجو أن تتغير بسهولة"، لكن حملة الصحف المنافسة للأهرام على هيكل ومؤسسته لم تتوقف، بل تصاعدت لتضم انتقادات للامتيازات التي تنفرد بها الأهرام في مجالات غير صحيفة كاستخدام لمواردها من العملات الصعبة وسهولة استيرادها للمعدات، وقرر عبد الناصر أن يعتبر علي صبري مشرفاً على جريدة الجمهورية، والسادات مشرفاً على مؤسسة أخبار اليوم ومؤسسة دار الهلال، ليقوم كل منهما بحل مشاكل المؤسسة التي ترفع إليه دون تعقيدات روتينية.
اتصل السادات بأحمد بهاء الدين وأبلغه بالقرار، وطبقا لما يرويه أحمد بهاء الدين في كتابه (محاوراتي مع السادات) فقد قال السادات لبهاء إن دار أخبار اليوم خصصت له مكتبا سوف يتردد عليه، وطلب منه تخصيص مكتب له في دار الهلال لكي يتردد عليه لحل مشاكل المؤسسة، لكن بهاء رأى أن في ذلك الطلب تفسيراً لقرار عبد الناصر يختلف عما فهمته، لأن وجود السادات في المؤسسة كمشرف عليها سيلغي وجود بهاء كرئيس لمجلس الإدارة، "وتستغل العناصر إياها وجود سلطتين" على حد تعبير بهاء الذي أجاب أنور السادات بسرعة: "مكتبي تحت أمرك وهو الوحيد اللائق بك في دار الهلال"، فرد عليه السادات: "مش معقول يا احمد، أنت بذلك لا تريدني في دار الهلال"، فقال له بهاء: "سيادتك تعلم أنني كثيرا ما وسطتك لدى الرئيس عبد الناصر لكي يعفيني من رئاسة مجلس إدارة دار الهلال وأن يجعلني مشرفا على تحرير مجلاتها فقط وتذكر أنه عندما رفض ذلك أكثر من مرة بحثت عن وظيفة في اليونسكو ووجدتها، وكنت على وشك الحصول على أجازة سنتين أعيشهما في باريس، فرارا من مشاكل الإدارة، وكان أيضا بسبب تعثر الأوضاع الداخلية سنة 1965 وما بعدها، فلما وقعت الحرب عدلت عن المشروع".
كان السادات يعرف سلفاً كل ما أخبره به بهاء، ولذلك لم يجد داعياً لإثارة أزمة معه، فقال له: "طيب أجِّل حكاية المكتب دي لحد ما نتقابل"، لكنه لم يفتح معه موضوع المكتب بعد ذلك، ولم يدخل دار الهلال أبداً، واكتفى بالمكتب الذي أعدته له دار أخبار اليوم والذي كان يذهب إليه كل يوم جمعة، وهو ما جعل أحمد بهاء الدين يتصور أن السادات احتفظ بأثر سلبي تجاهه بسبب ما قاله له عن موضوع المكتب، ومع أن السادات لم يفاتحه في الموضوع ثانية، إلا أن تصور بهاء اتضح أنه صحيح، وقد ثبت له ذلك بعد أعوام وبالتحديد في عام 1972 الذي أطلق عليه السادات "عام الحسم"، وكان الكثيرون يسمونه "عام الضباب"، وحين قام عدد من الكتاب والصحفيين على رأسهم توفيق الحكيم بكتابة بيان يصف الكلام عن المعركة بأنه "صار مضغة في حلوقنا لا نستطيع أن نبتلعها ولا نستطيع أن نلفظها" غضب السادات بشدة ووصف الحكيم بالمخرف العجوز "الذي لا أعرف ماذا يعجبكم فيه"، لكنه قال لمحمد حسنين هيكل إنه يعتقد أن أحمد بهاء الدين كان المحرض الاول على ذلك البيان، مع أن بهاء لم يوقع البيان لمرضه بأنفلونزا شديدة، برغم أنه كان مؤيدا للبيان.
حين قرر السادات معاقبة الكتاب والصحفيين الذين وقعوا على البيان بنقلهم من مواقع عملهم تأديبا لهم، واتهمتهم الأبواق الحكومية كالعادة بالعمالة والخيانة، لم يكن بهاء من بين المنقولين، لكنه تألم كثيراً مما حدث، فذهب إلى محمد حسنين هيكل وقال له من المستحيل أن يحدث هذا دون أن يصدر عنا أي صوت بالاحتجاج، فرد عليه هيكل: "ألا تعرف أن هناك رقابة على الصحف؟ وأين الرقيب الذي سيسمح بنشر احتجاجاتك؟"، فقال له بهاء: "أنا لا اريد أن أتخذ موقفاً بطولياً ويشطبه الرقيب، ولكنني أريد أن أكتب مقالا عقلانيا وهادئا جدا، فيه معنى الاحتجاج ولكن فيه أساسا فتح باب لتضميد الجراح"، فقال له هيكل: "اكتب كما تريد وسنرى رد فعل الرقيب".
كتب أحمد بهاء الدين مقالاً بعنوان محايد هو "بدلا من العنف المتبادل"، وقبل أن يسافر إلى لندن في اليوم التالي لإلقاء محاضرات في جامعة أكسفورد كان متفقا عليها من قبل، فوجئ بزيارة من هيكل واثنين من زملائهما، ليبلغه هيكل أن الرقيب شطب المقال، وأن السادات أصدر قرارا بنقله هو أيضاً إلى هيئة الاستعلامات، فاتصل بهاء بالمطار ليلغي سفره إلى لندن، وقال لهيكل إنه لن يقوم بالإجراء الشكلي وهو التوقيع على إقرار بتسلمه العمل في مصلحة الاستعلامات وسيعتبر نفسه مفصولا، وعرف بهاء فيما بعد من الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام السابق أن الرقيب قرأ له المقال على التليفون، وأن الدكتور حاتم اتصل بالرئيس وقرأ له الفقرات المهمة في المقال، فرد عليه الرئيس منفعلاً: "ألا يكفيه أنه هو المحرض على كتابة الرسالة وأنه لم ينقل إلى الاستعلامات؟ اشطب المقال كله". وبعد خمس دقائق اتصل السادات بعبد القادر حاتم وقال له بنفس صوته الغاضب: "هل شطبت المقال؟ طيب انقله هو أيضاً إلى مصلحة الاستعلامات".
ومن ساعتها وأنياب الديمقراطية لا تتوقف عن العض.
....
وختاماً مع الكاريكاتير:
في عددها الصادر بتاريخ 19 ديسمبر 1933 نشرت مجلة (الفكاهة) هذا الكاريكاتير الذي نشر تحته التعليق التالي:
المريض: عايز شربه من فضلك
الصيدلي: خد ملح انجليزي أهُه
المريض: لا يا عم! بعدين ما يخرجش من الجسم!
وفي سلسلة (بهجاتوس ـ الديكتاتورية للمبتدئين) التي كانت تُنشر في صحيفة (الأهالي) أواخر الثمانينيات رسم الفنان بهجت عثمان هذا الكاريكاتير:
وفي نفس الفترة تقريباً نشر الفنان حجازي هذا الكاريكاتير:
وبمناسبة تهليل الصحف الحكومية في عهد مبارك لسياسات صندوق النقد الدولي التي ستنقذ البلاد من وحلتها، نشر الفنان محيي الدين اللباد هذا الكاريكاتير:
وأترك لك مقارنة هذه الكاريكاتيرات بأحوال الكاريكاتير الآن في عهد سيطرة الأذرع الإعلامية السيساوية على جميع الصحف والمجلات، بما فيها تلك التي يسمونها حزبية أو خاصة.