كن صوت نفسك
للأسف، المشكلة فيك أنت، ليست في مطربك الذي كنت تعتبره صوتك، ولا في شاعرك الذي كنت تحسبه لسان حالك، ولا في كاتبك الذي كنت تراه بوصلتك، المشكلة أنك تعيش في القرن الحادي والعشرين، لكنك لا زلت تحتاج إلى أحد يكون لك صوتاً ولسان حال وبوصلة.
صدقني، وليس لك عليّ حلفان، كلما اكتشفت هذه المشكلة مبكراً، كلما نجوت من خسائر فادحة، تعرض لها جيلي وغيره من الأجيال التي تربّت على فكرة أن تخلط بين الفنان وفنه والكاتب وكتابته والشاعر وشعره، وعندما حانت الساعة التي جعلت كل فنان أو كاتب أو شاعر اخترناه صوتاً ولسان حال وبوصلة، يبحث لنفسه عن جمهور جديد غير الذي "عاش عليه" سنين طويلة، شعرنا بالخيانة والخديعة، فأخذنا نثأر لأنفسنا باتهامهم أنهم خانوا أنفسهم وباعوها بالرخيص، لأننا لم نكن مستعدين لمواجهة أنفسنا بحقيقة بسيطة ومرة، هي أننا لم نعد نلزمهم كثيراً بعد أن تغيرت الأحوال، لأننا ببساطة لم يعد لدينا النفوذ الوحيد الذي كنا نمتلكه: نفوذ أننا جمهورهم الأكبر، ولأن أغلب شعراءنا وكُتّابنا وفنانينا تعوّدوا على أن يعيشوا دائما بصحبة جماهير عريضة تدعمهم وتحبهم وتدللهم، وحين لم نعد صالحين للعب دور الجماهير العريضة بالنسبة لهم لأسباب تخص تطور رؤيتنا للعالم ولهم، كان لا بد أن يبقوا بصحبة جماهير عريضة تتخذهم صوتها ولسان حالها وبوصلتها، حتى لو كانت تؤمن بعكس ما آمنوا به وعاشوا من أجله، فليس من السهل أبداً أن تعيش بدون جمهور بعد أن عشت عمرك كله كذلك.
هي قصة حزينة، وفرط تكرارها وتشابه تفاصيلها يزيدها حزنا. في البدء تكون الكلمة الجميلة، يكون اللحن الرائع، تكون الفكرة المبدعة، يكون كل ذلك وحده الشغل الشاغل والهم المؤرق لأصحابه، دون التفكير في جمهور ولا متلقٍ ولا عواقب ولا ردود أفعال. وقتها يكون لدى الكاتب والفنان استعداد لأن يفعل كل شيئ من أجل أن يقول كلمته وأغنيته كما هي متفردة لا تشبه أحداً، ودون أن يتدخل فيها أحد، حتى لو دفع ثمن ذلك غالياً، وحتى لو لم يهتم بما يقوله أحد، مراهناً على متلقٍ مجهول بالنسبة له، لكنه يتمنى أن يحب تفرده، ودائماً ما يكسب الرهان، لأن التفرد يجد دائماً من يحبه، خصوصاً حين تكون الغلبة للأصوات المعلبة والأفكار المكررة، ومن هنا تزداد ثقة الكاتب والفنان بنفسه وبما يرغب في تقديمه، ويزداد تمسكه بتفرده، فيزداد حب جمهوره الناشئ له، ويكبر شيئاً فشيئاً معه وحوله.
لكن الحب فتّاك كما تعلم، ولا ينجو من تقلباته أحد، ولعل أخطر ما في الحب أن تقع في هوى الإحساس بأنك محبوب، عندها سيصبح ذلك الشعور محركك في كل ما تفعل، لتبدأ في التصرف كصوت للشعب، كشاعر للقبيلة بالمعنى المعاصر، كبوصلة لحيارى اللحظة وكل لحظة، كمعبر عن روح جماعية ما، بدلاً من التعبير عن ما يدور بداخلك أنت وحدك، عندها ستقل فرادتك وسيقل انشغالك بأن تكون نفسك أولاً وأخيراً، لكن قدرتك على عزف تنويعات مختلفة على ما يجلب حب الناس لك، ستمكنك من التماسك أطول فترة ممكنة، ستساعدك الموهبة إذا كانت عريضة، وسيساعدك أيضاً أن تشتغل كثيراً على نفسك وتكون جاداً معها.
لكنك إن طال الوقت أو قصر، ستجرب يوماً ما إحساس الفزع حين تجد ذلك الحب يقل لمجرد أنك أبديت رأياً صادماً لمحبيك، أو اتخذت موقفاً مزعجاً لعشاقك، وعندها ستكون كل خياراتك صعبة، إما أن تتراجع لتظل شاعراً للقبيلة وصوتاً للشعب وكاتباً للجماهير، أو تصر على تفردك في الموقف أو الرؤية فتجرب مشاعر سلبية لم تكن تظن وجودها أصلا وربما لا يكون لك بها طاقة، وعندها ستعاود اختيار البقاء كشاعر للقبيلة وصوت للشعب وكاتب للجماهير، لعل ذلك يوصلك في نهاية المطاف إلى أن تبحث دائماً عن الجماعة الأكثر حضوراً، عن القبيلة الأشد غلبة، عن المحتاجين الأكثر عدداً لصوت ولسان حال وبوصلة.
أعرف أن التفسير الذي أقوله لك محبط، لأنه لا يرضي غضبك ممن تصدمك مواقفهم من "شعراءك وفنانيك وكتابك"، ربما بدت أفكار واضحة مثل الخيانة والبيع و"التعريص" أقرب إليك لأنها أكثر فشّاً لِغلّك وتنفيساً لغضبك، لكن صدقني كنت أتمنى أن يكون هناك خيانة بالمعنى الذي تقصده لكي أتحرر من أثقال الحزن على بعض هؤلاء القريبين إلى قلبي، وأستبدل حزني عليهم ببهجة الإدانة، لكن صدقني لو راجعت نفسك لوجدت أن كثيراً منهم لا يمكن أن يكون قد استفاد بالمعنى المادي المباشر من مواقفه الصادمة الأخيرة. صدقني للأسف ليس في الأمر صور نمطية كالتي تم ابتذالها من فرط تكرارها، مثل "الظرف المتخم والشيئ الفلاني والكليب الفاضح اللازم للإبتزاز والسيديهات المتشالة في الأدراج"، فلو كان الأمر كذلك لسهل عليك إذا كنت رقيق القلب أن تتعاطف مع ضعف بشري كلنا معرضون له، ولسهُل عليك إذا كان قلبك "جامداً" أن تشعر بلذة الإحتقار لهؤلاء الذين لم يختاروا منذ البداية أن يكونوا منحازين فقط للفن والأدب والكتابة بشكل مجرد، دون أن يرفعوا طيلة الوقت شعارات ومبادئ و"كلام كبير"، لتكون طريقهم إلى النجاح والكسب، ثم عندما لم يعد يجيئ من وراءها نجاح ولا مكسب، قفزوا سِراعاً إلى أقرب سفينة غير مهددة بالغرق.
صدقني، ليت الأمر كان بهذه البساطة في أغلب الأحوال، فالأصعب على النفس أن ترى هؤلاء الذين كنت تظن فيهم الحكمة، وهم يقفزون إلى سفينة يبدو لكل ذي عينين أنها غارقة لا محالة ببركات ربانها المضطرب نفسياً، وركابها الذين لا يكفون عن خرق كل شبر فيها كل لحظة، لكنهم اختاروا أن يقفزوا إليها هاجرين مبادئهم وضمائرهم، بزعم أنها سفينة الشعب، خاصة أن مصطلح "الشعب" في تفكير هؤلاء بات يرتبط بالجمع البشري الأكثر عدداً والأعلى صوتاً والأكثر حدة والتصاقاً بالسلطة، حتى لو كان هذا الجمع يؤمن بمبادئ تناقض ما عاشوا من أجله، وبأفكار لا علاقة لها بما غنوه وكتبوه وعبّروا عنه طيلة عمرهم.
لكي تتأكد، حاول أن تقترب من أحد هؤلاء، لتذكِّره بأن ما يُهلِّل من أجله الآن بمنتهى الفجاجة، يناقض أبسط مبادئ الإنسانية التي لا يعقل أن يدوس عليها أبداً شاعر أو فنان أو كاتب، قل له إننا لسنا غاضبين منه بسبب موقف سياسي يمكن أن يختلف فيه الناس كما شاؤوا، فنحن لسنا بصدد قائد أو سياسي يمكن أن يحبه البعض ويكرهه البعض الآخر، قل له أننا حين نغضب من فنانين وكتاب وشعراء أحببناهم طيلة عمرنا، لا نخاصمهم، لأننا لا نطيق نحنحة حديثهم أو سحنة وجوههم، بل نخاصمهم ونعارضهم ونرفضهم، لأنهم بتأييدهم للسلطة الظالمة، يساهمون في إهدار حق الإنسان في الحفاظ على حريته وكرامته وحقوقه، قل لهؤلاء جميعاً إن مشكلتنا ليست مع شخص بطلهم المحبوب الذي يشوهون سمعتنا لأننا نعارضه، وأن مشكلتنا لم تكن أبداً مع شخص الحاكم، أي حاكم، مشكلتنا هي غياب الحرية، هي اختلال العدالة الاجتماعية، هي ضياع الكرامة الإنسانية، وكان ينبغي أن تكون تلك هي مشاكلهم أيضاً. قل لهم إنهم لم يطرحوا أنفسهم من البداية كأناس يهدفون فقط للتسلية والإمتاع، لكنهم طرحوا أنفسهم بوصفهم راغبين في تحسين شروط الحياة والاختلاف مع السائد السيئ مهما التف الناس حوله، وربما كان عليهم أن لا يدّعوا لنفسهم من البداية هدفاً سوى التسلية والإمتاع، وهو هدف محترم ومشروع، وليس بالهين أبداً على أية حال.
أرجوك أن تجرب وأنت تقول كل ذلك أن تقرنه ببعض اشعارهم وأغانيهم وكتاباتهم المحفورة في وجدانك، وستندهش عندما تجد إنكاراً تاماً من هؤلاء لفكرة أنهم تنازلوا عن شيئ مما كتبوه أو تخلوا عنه، وستجد إصراراً منهم على أنهم لم يتخذوا مواقفهم المناقضة لمشوارهم وأفكارهم إلا من أجل الشعب، وستسمع كلاماً من نوعية: "إنتو مش حاسين بالناس.. انزلوا للناس واسألوهم وشوفوا هما عايشين فين.. الناس في وادي وانتو في وادي"، كلاماً كان يقال لهم أنفسهم عندما كانوا يعبرون عن مبادئ وأفكار من الطبيعي ألا تحظى بجماهيرية ساحقة، في بلاد يمتلك السلطة فيها من لا يحاسبه أحد إذا قمع وقتل واضطهد من ينادي بهذه المبادئ والأفكار، قل ذلك لهؤلاء الذين بنوا مجدهم الفني على كونهم مختلفين ومتمردين، وسيدهشك اتهامهم لك بأنك باختلافك وتمردك تعرقل سعي الناس للتطور والهدوء والاستقرار وتدوير عجلة الإنتاج، وللأسف لن تشعر بأن أحداً من هؤلاء سيقول لك ذلك بارتباك أو استحياء، بل على العكس ستجده يفتح جاعورته في وجهك شعراً أو نثراً أو غناءاً، قائلاً "كلامه الجديد" الذي يستهوي جمهوره العريض الجديد الذي أصبح يراه صوته ولسان حاله وبوصلته.
من حقك أن ترفض هذا التفسير لأنه لا يحقق لك فش الغل اللازم لاستمرار الحياة، لكن من حقك عليّ أيضا أن لا أتركك دون أن تحظى ببهجة تبدو صغيرة، لكنها تمثل ـ بالنسبة لي على الأقل ـ لحظة نصر مهمة، فليس عيباً أن تقر عين المرء منا برؤية انتصار ما على من هزموه. لا أدري إذا كان سيرضيك أن تدرك أن هؤلاء الذين غيّروا شروط التعاقد بينك وبينهم من طرفهم وحدهم، وخاصموا مبادئهم التي أحببتهم من أجلها، يتعرضون غالباً لعقوبة فتاكة دون أن يأخذوا بالهم من فتكها بهم، هي فقدانهم لتلك اللمسات الساحرة التي كانت تجعل لكل ما ينتجونه وقعاً خاصاً لديك، وإذا لم تصدقني أرجوك راجع ما أصبح يصدر عنهم من قصائد وأغاني ومقالات بل وحتى ما يقولونه من تصريحات وحوارات، وستذهل وأنت ترى ما أصابهم من تدهور مريع، لدرجة أنك لو نسبت إنتاجهم هذا إلى أسماء مجهولة وطلبت رأي الناس فيها، لرمى أغلبهم أصحابها بالفاحش من القول بسبب رداءة وركاكة وثقل ظل هذا الإنتاج.
صحيح أن هذا الإنتاج الذي يصدرونه مؤخراً، يلقى قبولاً لدى جمهورهم الجديد الذي سيحب كل ما يصدر عنهم، ليس بسبب عظمته الفنية، ولكن لأنه إنتاج يدعم مواقف سلطوية منحطة، وصدوره عن أناس كان لديهم تاريخ طويل من معارضة السلطة، يجعل عبيد السلطة مطمئنين إلى صلابة مواقفهم المنحطة التي تهزأ بحرية الآخرين وكرامتهم، فهي مواقف منحطة لا ينفردون بها، بل يتخذها معهم الشاعر العظيم والمغني العظيم والكاتب العظيم، ولذلك لا ينشغل هؤلاء بالتقييم الفني لإبداع هؤلاء بقدر انشغالهم بنشره مصحوبا بشعار "مش دول كانوا معارضين وثورجية زمان وكنتوا طالعين بهم السما.. ولا انتو بتفهموا أحسن منهم هم كمان".
عندما يقول لك أحد ذلك متصوراً أنه يكايدك ويضايقك، أرجوك لا تضيع وقتك في مناقشته، بل الجأ إلى ما كنت تحبه لأبطاله الجدد من قصائد وأغاني وكتابات، واجعلها هي ردك، ليس عليه، بل على نفسك التي تشعر بالحزن والخديعة، ذكرها بما أحببته في هذا الشعر والغناء والكتابة والفن، وصدقني لن تجد في كل ما أحببته لهؤلاء الكتاب والفنانين شيئاً يناقض القيم الإنسانية التي لا يصبح لهذه الحياة معنى إلا بها. تأمّل كيف استطاعوا أن يعبروا عن تلك القيم الإنسانية بقدرة مدهشة على الإمتاع دون تقعر ولا تنظير ولا فذلكة ولا غلظة، وكيف فقدوا كل ذلك أو أغلبه الآن، فلا هم حافظوا على مبادئهم ولا هم حافظوا على تميزهم، ولا هم حافظوا عليك كمحب قديم.
ربما جعلك ذلك تشعر بالرضا ولو قليلاً، وربما وجدت نفسك مع الوقت تدرك أنك أحببت هؤلاء ليس لأنهم صوتك ولا لسان حالك ولا بوصلتك، بل لأنك حين كنت تبحث عن صوتك وعن لسان حالك وعن بوصلتك، أحببت منهم أشياء كثيرة، وها أنت الآن تكره منهم أشياء كثيرة، فتمسك بما أحببت، ولا تجعل ما كرهته منهم، ينسيك أنك بحاجة إلى بذل كثير من الجهد، لتكون أنت صوت نفسك ولسان حالك وبوصلة طريقك.