لم يخلُ إعلان وزير الأمن في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، عن قراره النهائي باعتماد الجنرال أفيف كوخافي مرشحاً لرئاسة أركان الجيش من قبله، خلفاً للجنرال غادي أيزنكوط، من متلازمات الثرثرة الإعلامية عن خلاف خفي بين ليبرمان وبين رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، حول هذا التعيين، سرعان ما تبدلت بعد ساعات إلى ثناء على الجنرال المرشح لرئاسة الأركان، وإبراز حقيقة أن الخلاف كان بفعل رغبة نتنياهو في أن يتضمن الإعلان أيضاً عن تعيين الجنرال أيال زمير، قائد المنطقة الجنوبية المسؤول عن مواجهة قطاع غزة، نائباً لرئيس الأركان، وهو ما اعتبره ليبرمان مساً بصلاحياته التي يخوله إياها القانون.
عدا ذلك، أثنى المراسلون العسكريون، بطبيعة الحال، على الرصيد العسكري للجنرال أفيف كوخافي، وماضيه العسكري في مختلف الوحدات القتالية، التكتيكية منها والاستراتيجية، من دون أن يتوقفوا كثيراً، خلافاً لعادتهم، عند الإخفاق الأكبر لكوخافي، عندما كان رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" حتى عام 2014، ولم يقدر كما يجب، أو كما كان متوقعاً منه، حجم الفعالية العسكرية المحتملة والممكنة للأنفاق الهجومية لحركة "حماس". وكان إهمال أمر معالجة هذه الأنفاق، بحسب التعبير الإسرائيلي، قد منح "حماس خلال عدوان "الجرف الصامد" نقاطاً ومكاسب عسكرية مهمة على صعيد ضرب الروح المعنوية لدولة الاحتلال.
وعلى بالرغم من أن تقريراً خاصاً أصدره مراقب الدولة الإسرائيلية عام 2016، حسم الخلاف الذي نشب بين جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، وبين جهاز الاستخبارات العامة "الشاباك"، حول من المسؤول عن فشل عدم إبراز الخطورة الاستراتيجية لهذه الأنفاق، بإقراره أن "الشاباك" هو الطرف الذي حذر من هذه الأنفاق، فقد نجا كوخافي من أي محاسبة، وكان انتقل إلى منصب قائد المنطقة الشمالية المسؤولة عن الجبهة مقابل سورية ولبنان. وبعد ذلك بعام عين نائباً لرئيس الأركان، وهو ما رفع من فرص ترشيحه لرئاسة الأركان، خصوصاً إثر تصريحات نائب رئيس الأركان السابق، يئير غولان، بشأن الأجواء الفاشية في إسرائيل التي تذكر بالأجواء التي سادت ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي.
تبخرت كل هذه التفاصيل، التي ما كان يجرى عادة تجاهلها في الصحافة الإسرائيلية، وتم معها أيضاً تجاهل فشل كوخافي عندما كان قائداً للمنطقة الجنوبية في منع عملية اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وانتقل الحديث مباشرة إلى "رصيد" كوخافي العسكري، والتحديات التي تواجه الجنرال الذي جعل ترسانة "حزب الله" الصاروخية والخطر الإيراني عنواناً لمؤتمرات هرتسليا للمناعة القومية في السنوات الأخيرة. وكما هو سائد في الخطاب الإسرائيلي، خلال الأعوام الأخيرة، فإن الجبهة الشمالية (سورية ولبنان وأخيراً الوجود العسكري الإيراني) تحتل مكانة الصدارة في الحديث عن التحديات العسكرية التي تواجه الاحتلال، لمن يؤيدون التيار المركزي في السياسة الإسرائيلية، مقابل إشارة آخرين إلى حجم التحدي الفلسطيني وخطورة مواصلة تجاهل الملف الفلسطيني، أو اعتباره ليس وجودياً مقارنة بالتهديدات التي تمثلها إيران.
وفي هذا السياق، ربط المحلل العسكري في موقع "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، بين الجبهتين، الشمالية والجنوبية، باعتبارهما ساحتي المواجهة المقبلة التي قد يضطر كوخافي، في حال تسلمه المنصب رسمياً مطلع يناير/ كانون الثاني المقبل، إلى التعامل معها، بعد أن يسلمه رئيس الأركان الحالي، غادي أيزنكوط، جيشاً "مجهزاً بالعتاد، وهو في أوج قدراته في السنوات العشرين الأخيرة، سواء من حيث جهوزيته العسكرية والقتالية أم من حيث جهوزيته للحرب". هذا الموقف يختلف معه مفوض شكاوى الجنود العقيد احتياط، يتسحاق بريك، وفق تقرير نشره أخيراً قال فيه إن "جهوزية الجيش للمواجهة المقبلة ليست كافية، في أخف تعبير". ووفقاً لبن يشاي سيكون على كوخافي ألا يكتفي بما سيحصل عليه، لأن الجبهة الشرق أوسطية في تغيير دائم. هذا يعني أنه سيكون على كوخافي بلورة سياسة جديدة تشمل استراتيجية وطرقاً تكتيكية جديدة لمنع تموضع إيران في سورية ومنع وصول ونقل الأسلحة النوعية إلى "حزب الله"، ومنع الحزب من امتلاك صواريخ دقيقة. إلى ذلك، سيكون على كوخافي، ونتيجة لتداعيات إسقاط الطائرة الروسية فوق الأجواء السورية في اللاذقية، بلورة خطط جديدة لما تسميه إسرائيل "المعركة بين الحروب"، التي تشير إلى الحرب المتواصلة ضد إيران و"حزب الله" وقدراتهما القتالية وسياسات التسلح لدى الحزب، وسط اعتماد طرق وتوجهات جديدة لمواجهة المشاكل والمعضلات التي تمثلها وتفرضها الجبهة الشمالية.
وبموازاة ذلك، يرى بن يشاي، أنه سيكون على كوخافي أن يساعد الكابينيت السياسي والأمني ورئيس الحكومة في بلورة "استراتيجية جنوبية" تفضي إلى تهدئة على الحدود مع قطاع غزة، وتعمق التعاون المثمر، عسكرياً وسياسياً، بين إسرائيل ومصر. وعلى صعيد بناء القوة العسكرية وهيكلة الجيش، يرى بن يشاي أن كوخافي سيواصل الخط الذي سار عليه أيزنكوط، في تعزيز قوة سلاح البر ووضع خطة خمسية جديدة بديلة لخطة أيزنكوط الخمسية "غدعون"، وتعزيز مكانة "السايبر" عبر تأسيس سلاح "السايبر"، وتعزيز الترسانة الصاروخية بصواريخ أرض - أرض بما يمكن جيش الاحتلال ويوفر له خيارات لشن ضربات صاروخية كانت متاحة لغاية الآن لسلاح الجو. وهو ما يبدو استعداد إسرائيلي لمواجهة واقع جديد قد تفرضه روسيا في سورية يقيد ويقلص من حرية الهجمات والغارات التي ينفذها طيران الاحتلال في سياق المواجهة ضد إيران ووجودها العسكري في سورية، وضد محاولات نقل أسلحة متطورة كاسرة للتوازن إلى "حزب الله". في المقابل، حدد رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الجنرال احتياط غيورا أيلاند، خمسة تحديات خفية يواجهها كوخافي، إلى جانب الجبهات الخمس المعروفة، والتي يقر بها كوخافي وأيزنكوط، وهي إضافة إلى إيران كل من لبنان وسورية والضفة الغربية وقطاع غزة والحدود مع مصر.
وبحسب أيلاند فسيكون أول تحدٍ خفي أمام كوخافي، هو تشخيص الواقع، كي لا يتكرر خطأ رئيس الأركان الأسبق، دافيد العزار، الذي قبل تشخيص شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" وتقديراتها بأن مصر لن تشن حرباً لأنها لا تملك القدرة العسكرية على استعادة كامل شبه جزيرة سيناء. وفي عام 1982، أخطأ رئيس الأركان وقتها رفائيل إيتان بقراءة حقيقة الواقع السائد في لبنان، وتبنى الرواية التي تحدثت عن الأشرار الذين تنبغي محاربتهم مقابل "الأخيار" الذين ينبغي مساعدتهم وتنصيبهم حكاماً. ويرى أيلاند، أنه حتى دون الخوض في التفاصيل فإن احتمال قراءة خاطئة لواقع الأمور، سواء في لبنان أو قطاع غزة، واردة، لذلك فإن المهمة الأولى لرئيس الأركان القادم هي إدراك وفهم الواقع بشكل صحيح، حتى لو اعتقد المستوى السياسي عكس ذلك.
أما التحدي الثاني فيكمن في قدرة كوخافي على العمل بشكل صحيح في مواجهة المستوى السياسي، وعدم اعتماد المفهوم القائل بأن وظيفة الجيش هي تنفيذ المهام التي يلقيها المستوى السياسي على عاتقه، وأن يكون بدلاً من ذلك شريكاً في بلورة استراتيجية الدولة، من دون نفاق أو تزلف للمستوى السياسي. ويتطرق التحدي الثالث إلى القدرة على تشخيص التغييرات المطلوبة في سلم أولويات الدولة في الوقت الصحيح. ويوضح أن المقصود هو التغييرات المطلوبة في مبنى القوة العسكرية الذي يستغرق سنوات لتنفيذه وتطبيقه، وهي تغييرات مرهونة ومرتبطة بالتغييرات في البيئة الاستراتيجية وبالتغييرات التكنولوجية. أما التحدي الرابع في سلسلة "الجبهات الخفية" فهو يتعلق بتعزيز وبناء قوة المستويات الدنيا في الجيش والقوة العسكرية وترشيد أدائها وعملها، فلا يمكن لأي كان أن يضمن عدم تكرار حدث بحجم وقوة "حرب الغفران" (حرب أكتوبر/ تشرين الأول التحريرية في عام 1973). صحيح أن سيناريو مثل هذا الحدث قد يكون مغايراً، وقد يشكل انهيار أجهزة حيوية وضرورية لروتين الحياة العادية في حال وقوع هجوم صاروخي مثلاً أو هجوم "سايبر"، وبالتالي فإن الواقع قد يلزم قادة من مستويات متدنية تشخيص الوضع ورصد ما يحدث ميدانياً، وأن يتخذوا بالتالي القرار الميداني من دون انتظار مساعدة أو تعليمات من فوق. وأخيراً فإن أيلاند يرى أن التحدي الأخير، الذي تنبغي مواجهته، هو المحافظة على ما يسميه "الشعور بالفخر للانخراط بالجيش والمحافظة على ثقة المجتمع الإسرائيلي ككل بالجيش".
لكن في المقابل، كان لافتاً أن الجهات المختلفة لم تتطرق إلى إشكالية تعيق أخيراً انتظام عمل جيش الاحتلال، وهي إشكالية العلاقة بين الدين والجيش، ومرجعيات قادة الجيش العسكريين مقابل مرجعيات الحاخامات، خصوصاً مع تنامي تدخل حاخامات التيار الديني الصهيوني في سياسات الإعداد والتثقيف الديني في الجيش من جهة، وحرب التيار الديني الأصولي، الأرثوذكسي المعارض للخدمة في الجيش، الذي يصعد من تدخلاته، خصوصاً ضد خدمة النساء في الجيش، ولا سيما في الوحدات المختلطة.