كورونا وإعادة المنظومة القيميّة في العلاقات الدولية
منذ توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648 في مدينة مونستر الألمانية، والتي أنهت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حُكِمت العلاقات الدولية بالمنظومة الوستفالية، بعدما وضعت أسس عصر جديد في العلاقات الدولية، مبنيٍّ على مبدأ سيادة الدول التي باتت الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، وصبغت من ثم النظام الدولي، بقيمها التي يتقدّمها هدف الحفاظ على بقائها، وتحقيق مصالحها، وفي مقدم هذه المصالح الحفاظ على أمنها القومي الذي يختزل، في معظم الأحيان، بالجانب العسكري وأمن الحدود.
ولكن هذه المنظومة تعرّضت لمراجعة جذرية، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع الأيديولوجيا الشيوعية في مقابل انتشار واسع للديمقراطية الليبرالية، وبروز ظاهرة العولمة، حيث ساد تفاؤل كبير، ولا سيّما في الغرب، بأن عهداً جديداً من الاستقرار والسلام قد حل، تكفله عقلانية الدول الكبرى والاعتماد المتبادل وتشابك العلاقات في ما بينها، غير أنّ هذا التفاؤل سرعان ما أخذ يتبدّد، بعدما تكشف للعالم أنّ التغيرات التي حدثت لا تعدو كونها طاولت القشرة السطحية للعلاقات الدولية. وفي العمق، ما زالت هذه العلاقات محكومةً بجدلية القوة في ظل استمرار الدول، ولا سيما الكبرى منها، بزيادة قوتها العسكرية، ودخولها سباق تسلح محموم.
ما خلفه وباء كورونا من آثار ونتائج قد يفتح المجال لمراجعة قيم ومبادئ كثيرة تحكم العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد
ومع انتشار وباء كورونا، وما خلفه من إصابات ووفيات ضخمة على مستوى العالم، في الدول الفقيرة والغنية، الصغيرة والكبيرة، المتخلّفة والمتقدّمة، بدأت تساؤلات تطرح بقوة، في ظل الأزمة المعيارية القيمية التي أحدثها انتشار الوباء: هل يمكن لهذه الجائحة أن تهيئ لظهور تغيير في منظومة العلاقات القيمية للعلاقات الدولية؟ وهل يمكن لها أن تفتح الباب أمام عالمٍ يسوده مزيد من التعاون والجهود المشتركة لمواجهة التحدّيات والمخاطر غير التقليدية، وبالتالي تحقيق مزيد من الاستقرار؟ للإجابة عن هذا التساؤل المتشعب، يمكن الرجوع إلى تصريحات أطلقها عديدون من قادة الفكر في العالم، وتناولت هذا الموضوع وحللته. ومن ذلك، ذكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في مقال له في صحيفة وول ستريت جورنال، "وباء كورونا سوف يغير النظام العالمي إلى الأبد، فقد تكون الأضرار التي ألحقها بالصحة مؤقتة، إلا أن الاضطرابات التي ألحقها قد تستمر لأجيال عديدة". ورأى أنه لا يمكن لأي دولة، وإن كانت الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، وأنّ التعاطي مع الضرورات المستجدّة بعد الآن ينبغي أن يصاحبه وضع رؤية وبرنامج لتعاون دولي لمواجهة الأزمة". واعتبر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، في حواره مع صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية، أن تفشي فيروس كورونا مثّل تحدّياً للإيديولوجيا الكامنة التي سيطرت على الحملات الانتخابية في السنوات الأخيرة، ورفعت شعارات أنانية من قبيل "أميركا أولا"، "فرنسا أولا"، "الإيطاليون أولا"، و"البرازيل قبل كل شيء" والتي قدمت صورة مشوّهة عن الإنسانية، وجعلت الأمر يبدو كما لو أن كل فرد يمثل جزيرة معزولة عن الآخرين. وقال إنه "بات من الضروري في عالم اليوم التشجيع على إيجاد نوع من الوعي المشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية، وذلك من أجل تشجيع التعاون".
الإنسانية، مهما بلغت من تطور مادي، تبقى القيم أحد أهم مصادر قوة مجتمعاتها في مواجهة أي تحدّيات أو أزمات
وتضعنا هذه التصريحات أمام حقيقة أن "عالم ما بعد كورونا" لن يكون كما كان قبله، حيث شكّل الوباء إطاراً جديداً للتفكير في الواقع والمستقبل، بدأت معه منظومة العلاقات الدولية تتعرّض لإعادة النظر والتقييم. وقد يكون مبكّرا فهم طبيعة التغييرات، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إنّ التفاؤل بتغيير المنظومة القيمية بشكلٍ سريعٍ، وعلى المدى القصير، سيكون في غير مكانه، فالرؤية التي أسس لها توماس هوبس في القرن السابع عشر، أن الدول كالإنسان، تتصرّف بأنانية، وتغلب مصلحتها على مصالح غيرها، ستبقى لها الغلبة في المنظومة القيمية للعلاقات الدولية، لكن هذا لا يمنع من القول، في الوقت نفسه، إنّ ما خلفه وباء كورونا من آثار ونتائج قد يفتح المجال لمراجعة قيم ومبادئ كثيرة تحكم العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد، خصوصاً في ظل الانقسام الذي بدا واضحاً في الغرب حول طرق مواجهة الفيروس، وكذلك تغليب حسابات المصالح وتوازنات القوى على القيم في علاقات الفواعل الدولية بعضها مع بعض، الأمر الذي أثبت فشل المنظومة القيمية الغربية التي تسيّدت النظام العالمي عقودا، فالنظام العالمي، بكليته، ليس مجرد فواعل دولية تسعى إلى تحقيق القوة بمعزل عن الآخرين، ولكنه أيضاً يضم هياكل اجتماعية واقتصادية وقيمية جاء وباء كورونا لينبّه إلى القصور الكبير فيها، وإلى ضرورة إحداث تغيير على مستوى النظام ككل، يتناول الهياكل والقيم التي كانت سائدة في "عالم ما قبل كورونا" الذي يجب أن يختلف عن عالم ما قبله. وهذا الاختلاف يجب أن يركز على تكريس بوتقة جديدة من المفاهيم التي تقوم على القيم بين وحدات النظام الدولي، بدلاً من التبعية والقوة المادية وحسابات المصالح وتوازن القوى، فالإنسانية، مهما بلغت من تطور مادي، تبقى القيم أحد أهم مصادر قوة مجتمعاتها في مواجهة أي تحدّيات أو أزمات. وقد لا تعبر هذه القيم بالضرورة عن المنظومة الأخلاقية المثالية، وإنما عن القواعد الناظمة لفلسفة السلوك الإنساني والأخلاقي الذي يحترم الفطرة البشرية ويقدّرها مقابل ما هو غير أخلاقي خارج القيم الإنسانية، كالأنانية والفردانية التي عرّاها انتشار فيروس كورونا على مستوى العالم.