كورونا والنفس البشرية
والحقيقة أنّ ذلك العنوان يمكن أن يأخذ اليوم كل أبعاده، إذا ما اعتبرنا خلاصة فوكويوما تلك مقدمة صغرى تتلوها اليوم خاتمة كبرى بعد سنوات من سطوة نظام رأسمالي غزا العالم بمفرده، فنزع نحو سلطة معولمة اتخذت أشكالاً متوحشة، كان من ملامح نتائجها أن حولت الكائن البشري إلى كائن استهلاكي، افتقر في خضم استلابه إلى كل حس عقلاني، وكل فلسفة أخلاقية.
إنها هزيمة جديدة يتكبّدها الإنسان في لعبة الوجود، وما كان يبدو من تفوّق باهر للإنسان الحديث على أسلافه في معركة التقدّم وتطويع الطبيعة، نراه وقد استحال فشلاً ذريعاً لجيل كان الأكثر استشعاراً على مرّ التاريخ بقربه من الكمال، فإذا به يصطدم على حين غفلة بحقيقة نقصه.
وما فيروس كورونا الذي يجثم على أنفاس العالم اليوم إلا مظهراً لهذا التداعي الإنساني الذي أخذ يتراكم منذ بضعة عقود، إلى أن استحث صفعة توجه إلى خد البشرية حتى تستفيق من خيالات غرورها وعنجهيتها.
وكم كانت الصفعة أعدل قسمة بين الجميع، وهي تساوي بين مختلف الدول والأعراق والأجناس، إنها المساواة التي لم يكتب لسكان الأرض تحقيقها إلا على يد فيروس ضئيل، مساواة في الرعب كبديل عن مساواة في الهناء لطالما كانت متعذرة.
فبرغم كل الشعارات البراقة التي حملتها الحداثة وما بعدها من قيم لحقوق الإنسان ملأت المواثيق الدولية والدساتير المحلية، إلا أنّ واقع العلاقات الدولية وما يغلب عليها من نوازع هيمنة، وواقع العلاقات المحلية وما يغلب عليها من نوازع استغلال، كل ذلك لا يؤكد سوى حقيقة واحدة، وهي أنّ الإنسان يظل ذئباً لأخيه الإنسان.
إنها الحقيقة التي فشلت حتى الآن كل الأيديولوجيات الفلسفية والعلمية والدينية في تقويضها، وإذ نعلم ما يشكله الدين من وتر حساس داخل المجتمعات العربية، وما قد يثيره من اعتراض الإتيان على ذكر الدين في سياق فشل، فإننا نؤكد أنّ المقصود هو الأيديولوجيا الدينية وليس الدين، وجائحة كورونا جاءت لتثبت أنّ المعنى الذي يخلقه الدين في مجمل تصوراتنا الحياتية، يلفه خلل كبير، فالجشع والاستكبار اللذان كانا يميزان نفوسنا أثناء الرخاء، فجأة تحوّلا إلى استكانة وشبه تقوى بمناسبة هذا البلاء.
وهكذا فإننا نسيء إلى الدين في الحالتين؛ في الأولى حين نبتغي التزوّد بالدين كوسيلة لتخذير تهافتنا على الدنيا، وفي الثانية حين ندّعي فضيلة فوق قدرتنا، لأنّها فضيلة لا تخضع سوى لمنطق هلع، إذا ما زالت معه ادعاءاتنا التَّقِية، هذا وسيتضح من ناحية أخرى حجم مأساتنا في هذه المنطقة العربية، إذا ما ألقينا نظرة على القراءة الدينية التي شاعت في تفسير وباء كورونا.
تفسير انتقل من التشفي في الصين، واعتبار الفيروس عقاباً إلهيّاً لبلد يضطهد المسلمين، ثم بعد انتشار الوباء ووصوله إلى بلداننا تغيّرت القراءة، وأصبح الفيروس جنداً من جنود الله، مسخّراً لدحض أصحاب البلايا والمنكرات، ومن جملة ذلك نجاحه في إغلاق الملاهي وإيقاف المهرجانات، في تغافل عما أنجزه نفس الفيروس من إغلاق للمساجد وأماكن المقدسات.
إنّ ما نعتقده استحضاراً للقدرة الإلهية يصبح في كثير من الأحيان ومن حيث لا ندري إساءة جمّة لها، حينما نخضعها لاستقطابات ضيّقة، تتعارض مع مشيئة الله الداعية للتآلف والتراحم، ولا أدلّ على تلكم الإساءة سوى صور رفع أكف الضراعة إلى الله بأن يحفظ حصرياً الإسلام والمسلمين، في الوقت الذي ننتظر فيه غير المسلمين بأن يمدوننا بعلاج الفيروس عاجلاً غير آجل.
إنّ تمثلاتنا الدينية لترتبط في عمقها بتلك الذهنية اللاعقلانية التي بثتها فينا سنوات من السياسات المرتكزة على إنماء الجهل والحس الخرافي من لدن الأنظمة الاستبدادية التي وجدت نفسها فجأة في حاجة إلى حسّ واعٍ لطالما حاربته. إنّ الجهل والاستبداد اللذين يلفان العالم العربي من محيطه إلى خليجه، ليجعلان مواجهة الوباء أشد وطأة وأكثر صعوبة.
فما سنجنيه اليوم كنتيجة لتفشي هذا الوباء هو حصاد لما تم زرعه لسنوات، إنها مناسبة سيفرض فيها الواقع نفسه في تحدٍ غير مسبوق للخطاب الرسمي والإعلامي الذي سيجد نفسه أمام لحظة مكاشفة لن يزيدها الكذب والتضليل إلا مزيداً من التأزّم، ولعله من سوء حظ الجهات النافذة في السلطة أنّ مصيرها لأول مرة مرتبط بمصير الراضخين لسلطتهم، فمن سخرية القدر أنّ الكل اليوم في البلاء سواء، لذلك فالظرفية هي ظرفية تمحيص تجعل كل سلطة بما كسبت رهينة، إنها لحظة ستجعل الذين ظلموا يعلمون أي منقلب سينقلبون.
إنّ وباء كورونا الذي يضرب العالم اليوم يعطينا درساً مفاده بأنّ عدم الانسجام بين الإنسان وخالقه، أو بين الإنسان والطبيعة، أو بين الإنسان والناس، أو بين الإنسان ونفسه، كل ذلك سيفتح الباب على مصراعيه أمام جميع الشرور، كما أنّ انعدام الانسجام بين القوة والرغبات سيؤدي إلى اختلال ميزان العدل، وهنا سيختل لحن الحياة وسيعتوره النشاز، فتصبح الحاجة ملحة لتدخل عصا الطبيعة المخيفة كي تعيد الآلة الموسيقية الجموحة إلى مكانها وإلى نغمتها.