09 يونيو 2017
كيف تتشكل المعتقدات؟
لا يقتصر مصطلح المعتقدات أو الأيديولوجيا على الدين، وإن كانت المعتقدات الدينية هي الأكثر تماسكاً وقدرةً على الاستمرار والتأثير.. ولكن، يمكن أن تتشكل المعتقدات حول آراء وأفكار ومشاعر سياسية أو قومية أو وطنية أو إثنية.. ومن أقواها تأثيراً الأيديولوجيات التي تتشكل حول المقاومة والتحرير والاستقلال، وعلى سبيل المثال، فإن العمليات الانتحارية بين ثوار التاميل الماركسيين كانت أكثر مما سواها في أمم وأيديولوجيات أخرى. وكانت الوطنية اليابانية مصدراً لعمليات انتحارية كثيرة ومرعبة، ومازالت النازية تعتبر الأيديولوجيا القومية الأكثر خطورةً وقدرةً على جمع الناس، وحشدهم في اتجاهاتٍ مدمرة وقاسية.
ولكن، لأن مفاهيم ومصطلحات من قبيل الأيديولوجيا والمعتقدات والتطرّف والتعصب صارت تنصرف تلقائيا إلى الجانب الديني منها، فإن هذه المقالة أيضا ستخضع للاتجاه الغالب نفسه، وتتناول المعتقدات في تشكّلها ومستوياتها بمفهوم اجتماعي ونفسي، أكثر من ردها إلى الدين، وإن كان المتدينون يغلب عليهم رد المعتقدات إلى الدين، مستقلة عن الأبعاد الأخرى، وإلى الدين مستقلا عن مصدر سواه.
ليس هناك أحد يعرف تأويل كلام الله أو مراده على نحوٍ يمكن أن يتأكّد منه أحدٌ، بمن في ذلك المؤول أو العالم، ليس ثمة يقين في فهم النصوص الدينية، فما نعرفه لا نعرف ان كان كما يعلمه الله، فإذا كان لا أحد يملك الحقيقة أو اليقين بما يعرفه، فإنه لا يعرف إن كان مصيباً أم مخطئاً، فضلا عن أن يحكم على معرفة أحد أو محاسبته، وإذا كان لا أحد يعرف ما المحكم، وما المتشابه، فكل كلام الله محتمل أن يكون متشابها. إذن، ما الكفر وما الإيمان؟
ويتفاوت الناس في القدرة على المعرفة والإدراك.. ويتوزعون أيضاً فيما بينهم المواهب والمهارات، ففي كل مجال عارفون وموهوبون وأذكياء، لكنها معرفة إنسانية تكتسب ثقة الناس واتّباعهم، أو لا تكتسب، هي معرفة تستمدّ حضورها، صحيحةً كانت أو غير صحيحة، من ثقة الناس، ولا سلطان لأحدٍ على ثقة الناس وإيمانهم، ولا يملك أحد سلطة من السماء، تجعل ما يعرفه حقيقةً يجب الإيمان بها أو تصديقها.
فالمعرفة بما هي عقلانية وإنسانية عرضةٌ، على نحو حتمي، للتغير والمراجعة. وبطبيعة الحال، تشمل القاعدة كل معارفنا، فلا يكون العلم علماً إلا بكونه قابلا لإثبات زيفه، ويستمد كونه علما من أنه لم يثبت بعد زيفه.
ولذلك، تكون المعتقدات القائمة على العقلانية غير يقينية، وقابلة للتغير، ويكون أصحابها، على
الرغم من ذكائهم وتقدّمهم المعرفي، لا يوقنون بما يعرفونه، وتكون أيضا معتقدات غير رسالية، لا يجد أصحابها دافعاً لإثبات صحته، أو إثبات خطأ غيرها، ولا يزعجهم ألّا يؤمن بها الناس، فهي معرفةٌ أنجزت بمجهودٍ عقلاني وعلمي، وليست متعلقة بكرامتهم أو هويتهم أو وجودهم، ولا يعرّفون أنفسهم بها، ولا يعتقدون أنهم يفتقدون هويتهم، أو تتضرّر مكانتهم، لو تعرضت للنقد والإعراض، أو تخلى عنها أحد.
وفي المقابل، تظل المعتقدات المستمدة من عواطف ومشاعر أكثر ثباتاً، وقد لا تتغير، فلا يمكن إثبات خطئها، ولا يحدث ما يدعو إلى تغييرها، لأنها قضايا لا يطاولها العقل، بما هو متغير وغير يقيني، وتكون، بطبيعة الحال، قويةً ومؤثرةً، ويجدها أصحابها مرتبطةً بشخصياتهم وهويتهم ومعنى وجودهم. هي تعكس كيانهم ووجودهم في الحياة والمكان، ويكون المساس بها تهديداً أو ضرراً بالمكانة والمعنى المكتسب. وهكذا فالإيمان العقلي أضعف وأقل ثباتاً من الإيمان العاطفي!
وهناك مصدر ثالث للمعتقدات، إضافة إلى العقل والمشاعر، وهو البيئة الخارجية المحيطة، بما تعنيه من مصالح وانتماء وعلاقات واحتياجات ومخاطر. تنشأ مع الزمن معتقدات وقيم وثقافات يؤمن بها أصحابها، وعلى الرغم من أنها في منشئها مستمدةٌ من المنافع والمصالح، فإنها تتحول مع الزمن إلى أفكار مستقلة عن روايتها المنشئة، وتصبح معتقداتٍ قائمةً بذاتها، وغاية وليست وسيلة.
التهديد والشعور بالخطر على سبيل المثال أنشأ منظومةً من المعتقدات الكبرى والصغرى، ونشأت في ذلك الهوية والعداوة والصداقة والقيم، ويمكن النظر، هنا، إلى الهوية القومية المرتبطة بدين، إذ تتحول العقيدة الدينية إلى رابطةٍ وروايةٍ وطنيةٍ، يتصل بها وجود الدولة وكيانها. ارتبط المذهب الشيعي في إيران، على سبيل المثال، بتشكيل إيران وجغرافيتها وتاريخها، وصار صعباً الفصل بين إيران والمذهب الشيعي. وتركيا على مدار تاريخها يشكّل الإسلام جوهر الدولة ومبرّرها، ومصدر انتماء المواطنين، وعلاقاتهم مع بعضهم ومع الدولة. وحتى بعد عام 1924، ظلت هذه العقيدة تحكم مصطفى كمال أتاتورك، مثل أردوغان، بلا فرق، فظلت تنفق على المدارس والمؤسسات الدينية في دول آسيا الوسطى في أيام الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنها كانت دولة علمانية، لكن تركيا كانت تجد في الإسلام حفاظاً على هوية واستمرار الأمة التركية التي تنتمي إليها شعوب آسيا الوسطى، وكذلك الأمر بالنسبة لباكستان وبنغلاديش وكوسوفا وألبانيا والبوسنة والهرسك، تقوم روايتها للاستقلال والتأسيس على أساس الإسلام. وإسرائيل دولة تشكلت على أساس اليهودية، والأمر نفسه بالنسبة للأرثوذكسية في اليونان وصربيا وروسيا، والأرثوذكسية التوحيدية في إثيوبيا، والكاثوليكية في وسط أوروبا وغربها، وفي أميركا اللاتينية والبروتستانتية في الدول الاسكندنافية أو الأنجيليكانية في بريطانيا. الملك في بريطانيا هو أيضاً رئيس الكنيسة، وينص الدستور الدنماركي على أن البروتستانتية هي الكنيسة الرسمية للبلاد. وتنص دساتير دول أخرى على الأرثوذكسية، مثل اليونان، وأخرى على الكاثوليكية، مثل إيطاليا وإسبانيا ودول من أميركا اللاتينية. كما تنص دساتير معظم الدول العربية والإسلامية على أن الإسلام دين الدولة.
الفكرة الأساسية التي تستمد منها المقالة محاولتها للسؤال والإجابة، هي كيف ندرك ونميز حدود المعتقدات والأفكار الدينية ومصادرها ومستوياتها؟ وأن نميز ما هو من عند الله (النص الديني الأساسي كما هو) وما هو من عند الناس (الفهم والتأويل والتطبيق)، وأن يستطيع المؤمن وحده فهم الدين وتطبيقه، وأن يحدّد المؤمنون حدود هذا التطبيق ومجالاته، ويدركوا أنها معتقداتٌ وتطبيقاتٌ، كثير منها إنسانية المنشأ والمسار، وأنها تشكلت وترسخت على أساس احتياجات وأفكار إنسانية؛ ما يعني، بالضرورة، أنها يمكن أن تتغير وخاضعة للمراجعة، وأنها ليست مكوناً أساسيا في الدين، يتعبد به المؤمن إلى الله.
ولكن، لأن مفاهيم ومصطلحات من قبيل الأيديولوجيا والمعتقدات والتطرّف والتعصب صارت تنصرف تلقائيا إلى الجانب الديني منها، فإن هذه المقالة أيضا ستخضع للاتجاه الغالب نفسه، وتتناول المعتقدات في تشكّلها ومستوياتها بمفهوم اجتماعي ونفسي، أكثر من ردها إلى الدين، وإن كان المتدينون يغلب عليهم رد المعتقدات إلى الدين، مستقلة عن الأبعاد الأخرى، وإلى الدين مستقلا عن مصدر سواه.
ليس هناك أحد يعرف تأويل كلام الله أو مراده على نحوٍ يمكن أن يتأكّد منه أحدٌ، بمن في ذلك المؤول أو العالم، ليس ثمة يقين في فهم النصوص الدينية، فما نعرفه لا نعرف ان كان كما يعلمه الله، فإذا كان لا أحد يملك الحقيقة أو اليقين بما يعرفه، فإنه لا يعرف إن كان مصيباً أم مخطئاً، فضلا عن أن يحكم على معرفة أحد أو محاسبته، وإذا كان لا أحد يعرف ما المحكم، وما المتشابه، فكل كلام الله محتمل أن يكون متشابها. إذن، ما الكفر وما الإيمان؟
ويتفاوت الناس في القدرة على المعرفة والإدراك.. ويتوزعون أيضاً فيما بينهم المواهب والمهارات، ففي كل مجال عارفون وموهوبون وأذكياء، لكنها معرفة إنسانية تكتسب ثقة الناس واتّباعهم، أو لا تكتسب، هي معرفة تستمدّ حضورها، صحيحةً كانت أو غير صحيحة، من ثقة الناس، ولا سلطان لأحدٍ على ثقة الناس وإيمانهم، ولا يملك أحد سلطة من السماء، تجعل ما يعرفه حقيقةً يجب الإيمان بها أو تصديقها.
فالمعرفة بما هي عقلانية وإنسانية عرضةٌ، على نحو حتمي، للتغير والمراجعة. وبطبيعة الحال، تشمل القاعدة كل معارفنا، فلا يكون العلم علماً إلا بكونه قابلا لإثبات زيفه، ويستمد كونه علما من أنه لم يثبت بعد زيفه.
ولذلك، تكون المعتقدات القائمة على العقلانية غير يقينية، وقابلة للتغير، ويكون أصحابها، على
وفي المقابل، تظل المعتقدات المستمدة من عواطف ومشاعر أكثر ثباتاً، وقد لا تتغير، فلا يمكن إثبات خطئها، ولا يحدث ما يدعو إلى تغييرها، لأنها قضايا لا يطاولها العقل، بما هو متغير وغير يقيني، وتكون، بطبيعة الحال، قويةً ومؤثرةً، ويجدها أصحابها مرتبطةً بشخصياتهم وهويتهم ومعنى وجودهم. هي تعكس كيانهم ووجودهم في الحياة والمكان، ويكون المساس بها تهديداً أو ضرراً بالمكانة والمعنى المكتسب. وهكذا فالإيمان العقلي أضعف وأقل ثباتاً من الإيمان العاطفي!
وهناك مصدر ثالث للمعتقدات، إضافة إلى العقل والمشاعر، وهو البيئة الخارجية المحيطة، بما تعنيه من مصالح وانتماء وعلاقات واحتياجات ومخاطر. تنشأ مع الزمن معتقدات وقيم وثقافات يؤمن بها أصحابها، وعلى الرغم من أنها في منشئها مستمدةٌ من المنافع والمصالح، فإنها تتحول مع الزمن إلى أفكار مستقلة عن روايتها المنشئة، وتصبح معتقداتٍ قائمةً بذاتها، وغاية وليست وسيلة.
التهديد والشعور بالخطر على سبيل المثال أنشأ منظومةً من المعتقدات الكبرى والصغرى، ونشأت في ذلك الهوية والعداوة والصداقة والقيم، ويمكن النظر، هنا، إلى الهوية القومية المرتبطة بدين، إذ تتحول العقيدة الدينية إلى رابطةٍ وروايةٍ وطنيةٍ، يتصل بها وجود الدولة وكيانها. ارتبط المذهب الشيعي في إيران، على سبيل المثال، بتشكيل إيران وجغرافيتها وتاريخها، وصار صعباً الفصل بين إيران والمذهب الشيعي. وتركيا على مدار تاريخها يشكّل الإسلام جوهر الدولة ومبرّرها، ومصدر انتماء المواطنين، وعلاقاتهم مع بعضهم ومع الدولة. وحتى بعد عام 1924، ظلت هذه العقيدة تحكم مصطفى كمال أتاتورك، مثل أردوغان، بلا فرق، فظلت تنفق على المدارس والمؤسسات الدينية في دول آسيا الوسطى في أيام الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنها كانت دولة علمانية، لكن تركيا كانت تجد في الإسلام حفاظاً على هوية واستمرار الأمة التركية التي تنتمي إليها شعوب آسيا الوسطى، وكذلك الأمر بالنسبة لباكستان وبنغلاديش وكوسوفا وألبانيا والبوسنة والهرسك، تقوم روايتها للاستقلال والتأسيس على أساس الإسلام. وإسرائيل دولة تشكلت على أساس اليهودية، والأمر نفسه بالنسبة للأرثوذكسية في اليونان وصربيا وروسيا، والأرثوذكسية التوحيدية في إثيوبيا، والكاثوليكية في وسط أوروبا وغربها، وفي أميركا اللاتينية والبروتستانتية في الدول الاسكندنافية أو الأنجيليكانية في بريطانيا. الملك في بريطانيا هو أيضاً رئيس الكنيسة، وينص الدستور الدنماركي على أن البروتستانتية هي الكنيسة الرسمية للبلاد. وتنص دساتير دول أخرى على الأرثوذكسية، مثل اليونان، وأخرى على الكاثوليكية، مثل إيطاليا وإسبانيا ودول من أميركا اللاتينية. كما تنص دساتير معظم الدول العربية والإسلامية على أن الإسلام دين الدولة.
الفكرة الأساسية التي تستمد منها المقالة محاولتها للسؤال والإجابة، هي كيف ندرك ونميز حدود المعتقدات والأفكار الدينية ومصادرها ومستوياتها؟ وأن نميز ما هو من عند الله (النص الديني الأساسي كما هو) وما هو من عند الناس (الفهم والتأويل والتطبيق)، وأن يستطيع المؤمن وحده فهم الدين وتطبيقه، وأن يحدّد المؤمنون حدود هذا التطبيق ومجالاته، ويدركوا أنها معتقداتٌ وتطبيقاتٌ، كثير منها إنسانية المنشأ والمسار، وأنها تشكلت وترسخت على أساس احتياجات وأفكار إنسانية؛ ما يعني، بالضرورة، أنها يمكن أن تتغير وخاضعة للمراجعة، وأنها ليست مكوناً أساسيا في الدين، يتعبد به المؤمن إلى الله.