كيف نعيد المقاومة إلى الناس؟

28 فبراير 2016
(صف دراسي في العراء/ العيزرية، شباط 2016، تصوير:أحمد غرابلي)
+ الخط -

يبحث المقال في العلاقة بين السلطة الكولونيالية وأشكال المقاومة في السياق الفلسطيني، وقد بُني على مقولة ترى أن العلاقة بين السلطة وأشكال المقاومة هي من جنس العلاقة الضرورية، مما ينفي عنها الاعتباطية والإرادوية كأنها تتحدد وفق ما نرغب وما نريد فحسب. إذ بات من بديهيات القول إن العلاقة بين السلطة والمقاومة هي علائقية. وبالتالي فإن طبيعة العلاقة بين السلطة والسكان هي ما يحدد شكل المقاومة في نهاية المطاف.

بعبارة أخرى، إن المقاومة بالحجر أو بالسكين أو بالمقلاع أو بالصاروخ أو بالأساليب اللاعنفية هي مسألة مركبة وثيقة الصلة بطبيعة السلطة. وهو ما ينفي السجال الوهمي الذي يقع فيه بعض الفلسطينيين حين يُفاضل بين أشكال المقاومات، وكأنها مسألة ذاتوية أو رغبوية بما هو تعطيل لمنطقها بما هو تعطيل لمنطقها. إذ يبدو هذا التصور كأن المقاومة ذات مستقلة مكتفية بذاتها، ذاتية التشكيل وتتحرك من موقع متعال لا تتأثر بالسياق المعقد، وبخاصة طبيعة علاقتها بالسلطة.

وبذا تبدو مسألة إرادة فحسب؛ أي أن امتلاك نية الرد/ المقاومة يكفي ليخرج الفعل من حيز النية إلى الخارج بصرف النظر عن العلاقة المركبة التي تحدد الشكل والأداة. وهذا منظور يتجاوز منطق العلاقات المتداخلة والمركبة بين أشكال المقاومة وعلاقات القوة الاستعمارية من جهة، وعلاقة المقاومة بالسكان من جهة أخرى.

وعليه، وفق هذا الاقتراب يرتبط مستوى العنف وكثافته طردياً بمستوى انفصال السلطة عن الناس. وفي نفس الوقت تتحدد أشكال المقاومة وأدواتها بمستوى انفصال السلطة عن السكان.

فلولا الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 ما ظهرت تقنيات قتالية جديدة مثل الصواريخ وحفر الأنفاق كتدابير قتالية فلسطينية غزية أملتها ظروف "الانسحاب أحادي الجانب". وهو أيضاً ما يشكل أحد المتغيرات التفسيرية- مع وجود متغيرات أخرى لا يسعنا المقام لذكرها- لارتفاع مستوى العنف الاستعماري ضد قطاع غزة من جهة، وتطوير التدابير القتالية للمقاومة من جهة أخرى.

في المقابل يختلف المشهد في الضفة الغربية من جهة كثافة العنف، حيث كثافة العنف الاستعماري، المادي والمباشر، أدنى إذ ما زال الاحتلال محايثاً للناس ومتواجداً بين السكان من خلال الحواجز ومزاحمة المستوطنين للأحياء الفلسطينية، وغيرها من تقنيات السيطرة التي لم تنفصل عن السكان هناك.

إن مستوى العنف المباشر ضد السكان المقاومين في الضفة أدنى من غزة، حيث يعتمد على رصاص المطاط والحي وقنابل الغاز، فليست هناك طائرات إف 16 وقذائف مدفعية وغيرها من الأسلحة الثقيلة التي يستخدمها الاحتلال الصهيوني ضد مدينة غزة.

في المقابل، فإن أشكال المقاومة وتدابيرها أيضاً مختلفة، وتتوزع على أشكال متعددة: المقاومة الشعبية، والمقاومة العنفية كالحجر أو السكين أو المقلاع أو الزجاجات الحارقة وإشعال الإطارات، وفي بعض الحالات الاشتباك بالأيدي، وهي كلها أدوات بسيطة وغير مكلفة تؤثر في العدو، وتعوض ميزان القوة المختل وتفوقه العسكري.

وهكذا، إن تنوع ردود فعل السكان المستعمَرين يختلف ارتباطاً بمتغير انفصال السلطة. في غزة باتت المقاومة أكثر عنفاً محصورة في رشقات الصواريخ ضد البلدات الاستعمارية فحسب. وهذا قيد من قدرة المقاومة وحدد شكلها حيث بات محصوراً في شكل أحادي تقريباً. وانفصال سلطة الاحتلال عن غزة جعل المقاومة أقل مناورة وأكثر عنفاً حيث باتت أداة السكين مستحيلة كتدبير قتالي، بينما تبدو في الضفة الأداة الأكثر فعالية.

في المقابل، وبالرغم من اعتماد العدو على القوة الجوية ضد غزة، إلا أنه غير قادر في نفس الوقت على حسم المعركة لصالحه مما يعزز تناقضات المجتمع الصهيوني.

أما بخصوص الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 فنجد شكلاً مختلفاً عن غزة والضفة، يعتمد على النضال الحقوقي والسياسي الاحتجاجي وغير ذلك من أدوات المقاومة كالتظاهرات وعدم دفع الضريبة إلخ.

وقد نتحفظ على بعضها، مثل الرهان على إحداث التغيير في علاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر من داخل قبة الكنيست كما يتوهم البعض حيث لا يمت هذا الأسلوب الى المقاومة الجادة بصلة.

لكن من غير الممكن في هذا الغضون أن تتطور هناك تدابير قتالية كالصواريخ والأنفاق على سبيل المثال مثلما هي الحال مع المقاومة في غزة. وهو نضال مختلف يبقى متشكلاً بمحايثة السلطة للسكان الفلسطينيين، وهو بالتالي يؤثر في مستوى كثافة العنف وشكله.

والقصد هنا أن المقاومة ترتبط بشقها الآخر؛ أي بنقيضها وفي ما يُفترض أنها تواجهه: السلطة الاستعمارية. إذًا يتطلب الحديث عن أشكال المقاومة وأدواتها فهم ماهية المشروع الذي تعمل على تحديه أو التحرر منه من جهة، وشكل العلاقة بين السلطة والناس من جهة أخرى.

المقاومة والسكان المستعمَرون
يستدعي هذا المنظور لأدوات المقاومة حديثًا حول طبيعة العلاقة بين المقاومة والسكان، وما إذا كانت المقاومة جهازا قتاليا نخبويا محترفا ينوب عن الناس، أم هي فعل جماعي شامل لا يسقط بالإنابة أو التمثيل. فإذا كان انفصال السلطة عن الناس بما هو مصدر الإكراه الحديث، فمن غير المقبول عند حركات المقاومة بما هي فعل جماعي شامل أن تحاكي هذا التصور خطاباً وممارسة.

إذا كانت السلطة الحديثة بما هي هيمنة على الذهن ومراقبة متواصلة على الجسد، اختراع سياسي حديث، فمن غير المقبول تعميم فكرة إرادة القوة عند "ميشيل فوكو" على الحركات التي تسعى للتحرر الوطني كأفق معياري مؤطر لممارساتها.

ومن غير المقبول كذلك تعميم نموذج "ثيموتي ميتشل" حين يفترض وجود داخل وخارج متداخلين على المجتمعات ما قبل الحديثة وعلى المقاومات في المجتمعات الكولونيالية وإن كان ينطبق على بعضها تحديداً التي انزلقت إلى السلطوية كما سأبين. وهو منظور ينبني على فكرة التركيب؛ أي افتراض وجود خارج (إرادة السلطة) متسلط على داخل (إرادة المقاومة) ينحل في تركيب التمفصل أو التداخل حيث "الرغبة في الطاعة" (فوكو) أو إلى سلطة باطنة تستدعى محلياً أو خارج مستبطن (ميتشل)، الأمر الذي يجعل السلطة تبنى محلياً أو داخلياً وهو ما يجعل كافة حركات المقاومة في نفس الوقت حركات سلطة سلطوية لا حركات مقاومة تحررية.

مشكلة هذا المنظور حين يكون ممارسًا في السياق الكولونيالي، حيث يجعل حركات المقاومة متسيدة على الناس. وإلا كيف نفسر سهولة تحولها إلى حركات سلطوية، وهو ما يشكل المقدمة لنمو بذور الدولة في صيرورة الثورة قبل إنجاز مهمة التحرير. ونموذج منظمة التحرير ماثل أمامنا.

إن تحول حركات المقاومة بما هي فعل جماعي شامل إلى جهاز قتالي متعال عن السكان وينوب عنهم يجعلها أقرب إلى حركات سلطوية منها إلى حركات مقاومة تسعى لتحرير الإنسان من الاضطهاد، وهذا ما يفسر أن الدولة في السياق الكولونيالي بزغت من رحم حركات المقاومة فوقعت في إسار التبعية بعد استقلالها المزيّف.

كما وقعت في هذا الشرك منظمة التحرير وحركة فتح، والخشية أن يعاد إنتاجه مرة أخرى من قِبل حركة المقاومة (حماس) بما أنها أصبحت سلطة وجهازا بيروقراطيا كما يراها الناس في غزة، مما يكرس منطق سيادة الأقوى ويحيل أفعال المقاومة إلى أفعال سلطة تمسك بها طلائع نخبوية متعالية متطبعة بطابع الاستقلال الذاتي المطلق عن المجتمع الذي أنتجها لتصبح غاية في ذاتها وتمسي آلة قمع وامتيازات (فتح والمنظمة نموذجاً) لها منطقها الخاص ومصالحها الخاصة، وتسيّر علاقتها بالناس وفق مبدأ الأمر والطاعة.

بانقسام المجتمع إلى حاكم ومحكوم في صيرورة الثورة، تدخل المقاومة في ضرب من التسلط والاستبداد بعد أن تستدخل إلى مجتمع المقاومة عادة الطاعة المستبطنة وبعد تحولها إلى سلطة متركزة في طليعة متعالية. وهذا برأيي خيانة المنطق التحرري للمقاومات، ويجترح استراتيجيات السلطة الحديثة لمراقبة الناس وضبطهم، ويدخلها في ضرب من التسلط والاستبداد والقمع والانضباط المفروض.

إن فعل المقاومة كفعل جماعي شامل يؤدي إلى الخروج من دوامة الثنائية الحديثة وما بعد الحديثة، أي ثنائية سلطة/ مقاومة، حيث الأخيرة ملتحمة في الذات الجماعية بما هي، أي المقاومة مشروع جماعي شامل مما يحيط بها بسياج يحميها من الانزلاق إلى حركات سلطوية.

إن هذا الانزلاق يجعلها نتاج السلطة وتشخيصا لها كما يرى "ثيموتي ميتشل"، وبالتالي فهي استمرار لمنطق السلطة، ومواجهة الخصم بالدخول في حقله.

وهذه ليست بمقاومة على الإطلاق بل أقرب إلى منطق السلطة. وهو تمثيل لمنطق السلطة الحديثة التي أسست لفكرة انفصال السلطة عن الناس، وهو الانفصال الذي دشن الذات المتعالية عن الوجود المشتقة من الإرادة حيث أسست لاستراتيجيات القمع والاستثناء والضبط والتحكم مما يحيل إلى "الحياة العارية" و"الإنسان المستباح" كما يقول جورجو أغامبين. وهو مصدر التوتر بين المركز السياسي وبين المجالات الاجتماعية، بين البنيان الاجتماعي والبنيان السلطوي الدولاني الحديث القائم على مبدأ السيادة المطلقة. ومن هنا لا أجد حرجاً في القول إن الإرهاب هو أعلى مراحل الحداثة (الحداثة والهولوكوست عند زيجمونت باومان).

وفي السياق الكولونيالي تتمثل الخطورة في إعادة إنتاج حركات المقاومة لهذا المنطق السياسي: سلطة غير متصالحة مع الناس ومنفصلة عنهم وكتدبير قتالي مأخوذ بفكرة الجهاز بالمعنى الأغامبيني (نسبة إلى الفقيه الإيطالي جورجو أغامبين). وتجربة تحول حركات المقاومة في السياق الفلسطيني إلى حركات سلطوية يكشف أن السلطة/ الدولة افتراض صوري متحكم بتلابيب حركات المقاومة السلطوية كتأليف عقلاني باطني بلغة البنيوية حتى لا يفلت واقع السكان من هيمنة القوى النظامية التي كانت حركات مقاومة في الأمس وأصبحت حركات سلطوية اليوم.

في تعدّد أشكال المقاومة
من هذا المنظور تأتي أهمية تعدّد أشكال المقاومة، وأن المقاومة الشعبية بما هي تعميم لمنطق المقاومة لا تقل أهمية عن المقاومة العنفية كتدبير قتالي للحيلولة دون تحولها إلى تدبير جهازي سلطوي مفصول عن الناس.

فإذا كانت المقاومة الشعبية واللاعنفية تكرس رفض السلطة الاستعمارية، فإنها من جهة أخرى تُنشط الفئات الاجتماعية التي لا تستطيع حمل السلاح بشرط أن تدرك أن هذا التدبير المقاوِم له حدوده، بحيث تبقى منسجمة مع المقاومة العنفية بما هي رافدة لها؛ إذ من غير المعقول نسخ المقاومة العنفية بالمقاومة اللاعنفية ما بقي الاستعمار الصهيوني جاثماً في فلسطين. وبما يحافظ على توسيع نطاق مقاومة الاستعمار عوض أن تتحول إلى كائنات سلبية تركن في أثناء مقاومتها للاضطهاد الصهيوني إلى نخبة قد تنزلق من جراء استتباع الناس لها وإنابتها عنهم إلى حركات سلطوية.

هنا أهمية المقاومة الشعبية واللاعنفية كسياج حماية يحول دون انزلاق المقاومة العنفية المحترفة إلى جهاز سلطوي متعال عن الناس. ومن جهة أخرى يُسقط تهمة الإرهاب عن فعل المقاومة بما هي فعل شامل غير محصور في نخبة محترفة، ويُظهر للجميع أن المقاومة هي الناس المستعمَرون.

كما يُصعب هذا المنطق على العدو اقتلاع المقاومة، ويبث في صفوفه اليأس والإحباط لفشله في السيطرة على ذهن المستعمَرين من خلال عمليات التطبيع وترويض الذات الفلسطينية كما يتكشف مع الهبة الفلسطينية في الضفة والقدس في هذه الغضون، حيث تنتشر على أوسع نطاق شعبي فاصطدمت أجهزة السلطة الاستعمارية بحائط حديدي منيع أمام مقاومة "الناس العاديين".

إن التركيز على المقاومة كجهاز مقاتل محترف ونخبوي فحسب يحيل الآخرين إلى التقاعس، ويشعرهم بأن المقاومة وفعل المواجهة ليسا من اختصاصهم، ويتيح إمكان احتكار زمن المعركة وشكلها وفق حسابات فصائلية ضيقة كما تفعل حركة حماس في غزة مع حركات المقاومة الأخرى. وهو ما يؤدي الى استلاب الفعل النضالي وحصره في نخبة تتسيد على الناس، الأمر الذي يمثل مقدمات لبذور السلطة والدولة من رحم الثورة المحجوبة داخلها، ويساهم في تحويل علاقات الصراع التناحري إلى علاقة إجرائية تقنية بما ينحي ما هو أساس فيها.

ومن اللافت في هذا السياق أن تحوّل حركات المقاومة الى حركات سلطوية قبل أن تنجز التحرير يأتي على حساب التمسك بأساسيات الصراع والقضايا الجوهرية. وتجربة المفاوضات بين المنظمة وإسرائيل خير دليل على ذلك، حيث تتمسك الأخيرة بضرورة الوصول الى اتفاقيات مؤقتة، وتأجيل القضايا الجوهرية في الصراع لأنها توقف التقدم والوصول إلى تدابير ثانوية إلى أن تأتي اللحظة المناسبة لمعالجة القضايا "الكبرى" التي لن تأتي أبداً.

فالتقسيم الزمني والجغرافي، وتقسيم قضايا الصراع إلى قضايا كبرى وأخرى صغرى، ثانوية ورئيسية، هو استراتيجيات استعمارية صهيونية لن تجد لها في الجانب الآخر أفضل من حركات مقاومة سلطوية لها منطقها الخاص تتخفى وراء ستار المقاومة. وهو يمهد لبزوغ بيروقراطيات كئيبة من رحم حركات التحرر الوطني والتحول إلى أجهزة قمع بالرغم من القيم العادلة.



(باحث فلسطيني/ غزة)


اقرأ أيضاً: قبل الخروج من منظمة التحرير