كي لا ننتهي إلى استشراق أنفسنا بأنفسنا
صادفت على صفحات التواصل الاجتماعي في "فيسبوك" تعليقاً يقول ما ترجمته عن الإنجليزية "قصة الشرق الأوسط هي حكاية عائلة كانت تعيش بسلام في مجتمع متحضر. حتى جاءت عائلة أخرى بربرية من الصحراء، وفرضت سيطرتها. لم يكن أمام العائلة الأولى سوى أن تؤقلم نفسها بعض الشيء مع سوء حظها. بعد فترة من الزمن، عاشت العائلتان جنباً إلى جنب، وتمكنتا من أن تصيرا جارتين صديقتين. ولأن للعائلة الثانية أولادا عدة، وعلى الرغم من أن بعضهم تعلم أن يصير متحضراً ومتمدناً، وأن يعيش بسلام مع أفراد العائلة الأولى، إلا أن قليلين من أفراد العائلة الثانية حافظ على طبيعته البربرية التي جلبها أجداده معهم من الصحراء، إلى أن ادعى هؤلاء استحواذهم الكلي على أماكن عيش العائلة الأولى. هذا بالضبط ما نشهده في الشرق الأوسط اليوم".
رأيت في التعليق المذكور ما أراقب تناميه وانتشاره، اليوم، من عودة قوية للذهنية الاستشراقية العنصرية التي خلنا في الأوساط الأكاديمية أننا فككناها وتخلصنا منها. أكتب هذه السطور عن تلك الكلمات، لكي أقدم تحليلاً لسبب استيائي وقلقي الشديد من تنامي مثل تلك الذهنية، في المشرق العربي، خصوصاً أنه لا يخفى على القارئ المتأني ما يقصده كاتب السطور بتعابير مثل "العائلة الأولى المتحضرة" و"العائلة الثانية البربرية القادمة من الصحراء". ولا يمكن أن يغيب عن القارئ الصورة القيمية التي يرسمها صاحب الرأي المذكور، وما ترسخه في ذهن القارئ من منطق "خير-ضد-شر" ومنطق "أنا أبيض-ضد-آخر أسود"، أو "أنا متحضر-ضد-آخر بربري".
وذكرتني لغة التعليق المذكور باللغة التي اعتاد النظام العنصري في جنوب أفريقيا على استخدامها بشكل معكوس في أدبيات تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي، وقبل القضاء على التفرقة العنصرية في البلد المذكور: تقول تلك الأدبيات إن قبائل جنوب أفريقيا الأصلية بربرية متخلفة؛ إلى أن دخل الهولنديون إلى تلك المنطقة، وأحضروا معهم التمدن والحياة الحضرية، محولة إياه البلد من أرض قاحلة حضارياً إلى جنة مدنية مزدهرة. تلك اللغة التقسيمية إرث استشراقي كولونيالي قديم، يعود إلى القرن التاسع عشر، فككه العالم الأكاديمي بشكل كامل، وأدانه بعمق. لا بل وتبنى مفكرو العالم العربي الثورة على الاستشراق، ولغته العنصرية المذكورة. ولكن، يبدو أن الفكر الاستشراقي قد وجد له أرض ميلاد جديدة، لا في الغرب، ولكن في الفضاء المشرقي، والعربي نفسه الذي كان ضحية هذا الفكر الأساس في ولادته الأولى.
ولا يخفى على قارئ التعليق المذكور في الأعلى أن صاحبه يقصد ببرابرة الصحراء (العائلة الثانية) أولئك المسلمين أو العرب الذين عاشوا في الجزيرة العربية، وكانوا أبعد ما يكونون عن التحضر والتمدن. في حين كان أهل الشرق (العائلة الأولى) متمدنين ومتحضرين ومسالمين. تقول آخر الاكتشافات والأبحاث العلمية إنَّ الجزيرة العربية، في القرنين السادس والسابع الميلاديين، كان فيها وجود مدني وحضري قوي ومتنوع، وسياقات سوسيولوجية وثقافية ودينية وبشرية، أكثر تعقيداً وتعددية وتنوعاً وتحضراً مما اعتاد المؤرخون الكلاسيكيون العرب على الاعتراف به (أسطورة أو أكذوبة أن ما قبل الإسلام كان عصر جاهلية). عاش في الجزيرة العربية مختلف أطياف وشرائح التجمعات الثقافية والدينية قبل الإسلام، وفي أثناء الإسلام المبكر، من عرب وسريان وبيزنطيين وأثيوبيين ويمنيين، ومن مسيحيين ويهود وصابئة ووثنيين وأحناف. ولا تمثل هذه التنويعات فقط تيارات دينية، بل تجمعات حضرية ومدينية، تعكس بيئة الجزيرة الحاضنة. من جهة أخرى، لم تكن بلاد الشام مسيحية ويهودية وزرداشتية، أو فارسية وبيزنطية فقط، بل كانت أيضاً عربية، وكان فيها قبائل من البدو الذين عاشوا خارج إطار المدن، مع أنهم انتموا ثقافياً وحضارياً واجتماعياً إلى كل شرائح المجتمع التي عاش أبناؤها في المدن. لهذا، لا يمكن الحديث عن أهل الصحراء بأنهم برابرة، وأهل المشرق بأنهم متحضرون. كما أن المشرق في القرنين السادس والسابع لم يخل، أبداً، من بربرية وعنف وإقصائية، بل وجهاد ديني، مارسها من يعرفون باسم النساك العاموديون (سريان ويونان اللغة) الذين عاشوا في شمال وشمال غرب سورية ولبنان، وكذلك في بادية الشام.
ومن الخطأ الفادح الحديث عن "البربرية" و"التحضر/التمدن"، وكأنها صفات جمعية شمولية، تنطلي على جماعات وأمم وشعوب أو أديان وثقافات أو جغرافيا برمتها. البربرية والتحضر مجموعة مواقف وقيم ورؤى للعالم، وليست هوية، وهي عابرة للجغرافيا والجماعات والأديان والثقافات والأمم والتواريخ والدول. البربرية والتحضر صفات فردية وشخصية محضة، تعبر عن صاحبها، وصاحبها فقط. لنتذكر أن غزاة تاريخيين كثيرين ارتكبوا أفظع أنواع العنف والقتل في طريقهم نحو تأسيس إمبراطورياتهم لم يأتوا من الصحارى، بل من سياقات مدنية وحضرية. ولنتذكّر أن ممالك غرب وجنوب الجزيرة العربية والأنباط كانت كلها في سياقات صحراوية. ولنتذكّر أن كثيرين من مجرمي داعش والإرهاب، اليوم، يأتون من ما نعتبره أمهات عيون التمدن والتحضر في العالم.
هي ظاهرة خطيرة، أراها تنمو في مخيال أهل المشرق والعالم، اليوم، عن شعوب بعينها (العرب) وعن دين بعينه (الإسلام). أرى ما يبدو لي مؤشراً عن بوادر قيام أبناء المنطقة بشيطنة أنفسهم، تعبيراً عن يأس وقنوط ناجم عن عجزهم الكامل في وجه مآسي المنطقة حالياً. يعود كذلك، حتماً، إلى قيام أطياف من الإسلام السياسي والجهادي بشيطنة الإسلام نفسه الذي تقول إنها تمثله، أو إلى قيام أطياف لا إسلامية بنكوص ارتدادي عن الآخر، من خلال التشديد على تضادها القيمي والكينوني معه. آخر ما يحتاج إليه المشرق، اليوم، هو القيام بعملية شيطنة وجلد للذات، تجعلنا نستشرق أنفسنا بأنفسنا، بعد أن بدأ العالم (بالكاد) يعيد النظر في عملية استشراقنا.