لإنجاح المقاومة الشعبية السلمية الفلسطينية
في نهاية الماراثون الخطابي المهم للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، والذي بثته فضائية التلفزيون الفلسطيني الرسمية الخميس، قدّم الرئيس محمود عباس عدة نصائح للجان التي تم تشكيلها لوضع استراتيجية موحّدة للمقاومة الشعبية السلمية وإنهاء الانقسام وإعادة تشكيل منظمة التحرير، وقال إنه يتعهد بعدم التدخل في عمل تلك اللجان، وإنه سيحترم القرارات المتفق عليها من الجميع، مهما كانت. تثير هذه الجملة سؤالا: هل كان الرئيس يتدخل في السابق، ويعرقل محاولات الوحدة والمقاومة وإعادة تشكيل منظمة التحرير، وما هو سبب هذا التغيير الآن؟ هل يشعر الرئيس أن تلك السياسات، أو العراقيل، كانت سببا في الوضع المأساوي الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، وفشل تحقيق الحد الأدنى من المطالب الوطنية للشعب الفلسطيني؟
لا بد في محاولة وضع استراتيجية وطنية لمقاومة التراجع العلني عن المواقف الرسمية الفلسطينية بشأن مقاطعة إسرائيل. في عام 2013، سئل الرئيس عباس، في مؤتمر صحافي تلا إحياء ذكرى نلسون مانديلا، عن موقفه من الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، فأجاب بأنه يؤيد مقاطعة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، ولكنه يعارض مقاطعة إسرائيل، وهي دولة لدى فلسطين "اتفاق معها واعتراف متبادل معها". وعلى الرغم من أن منظمة التحرير اعترفت بإسرائيل خطيا عام 1993، إلا أن إسرائيل لم تعترف بدولة فلسطين، وإنما اعترفت شكليا بالمنظمة، ولا تزال تعتبر فصائل المنظمة، ومنها حتى حركة فتح، إرهابية، وتزج في السجون كل من ينتمي لتلك الفصائل. ولو افترضنا أن الرئيس عباس كان، في ذلك الوقت، ملزما بقول ذلك علناً بسبب وجود اتفاق أوسلو، إلا أن هذا الأمر لم يعد ملزماً، بعد أن أعلنت القيادة أنها في حلٍّ من اتفاقها مع إسرائيل، بسبب تراجع إسرائيل عن احترامه.
في عام 2013، قال الرئيس عباس، في مؤتمر صحافي، إنه يؤيد مقاطعة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، ولكنه يعارض مقاطعة إسرائيل
إذًا، أول ما يجب الاتفاق عليه في اللجنة المشكلة لوضع استراتيجية المقاومة الشعبية السلمية هو التراجع الرسمي عن الموقف العلني والفعلي للقيادة الفلسطينية، المعارض مقاطعة دولة إسرائيل، وليس الاستيطان فقط. ولا بد أن يشمل ذلك التأييد الرسمي والعلني للحركة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، والتي تصرف إسرائيل ملايين الدولارات لمحاربتها، وتعاقب مؤيديها، فقد منعت أخيرا أحد مؤسّسي الحملة الفلسطينية الخاصة بالمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، عمر البرغوثي، من السفر، واعتقال منسق عام الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل، محمود نواجعة، بعد توقيف غير مبرّر دام 17 يوما.
قرار دعم واضح، ولا لبس فيه، لحركة المقاطعة، يجب أن يشمل فلسطين والعالم، وأن يتم التنسيق في تطبيقه مع الحركة المؤسّسة منذ أكثر من عقد، والتي لها خبرة في الموضوع. أي على القيادة الفلسطينية التواضع قليلا، وقبول النصائح من القادة الميدانيين في الحركة التي هزّت الإسرائيليين أكثر من أي حركة مقاومة فلسطينية، مسلحة أو غير مسلحة. ويتطلب هذا الأمر أيضا العمل المباشر من خلال الحكومة الفلسطينية وأذرعها على تطبيق الأمر، من دون تردّد، آخذين بالاعتبار أهمية الصمود من خلال مقاطعة ما له بديل، والعمل الجاد على إيجاد بدائل لكل ما هو مستورد من إسرائيل.
قد يتطلب تبنّي القيادة الفلسطينية حركة المقاطعة وأدبياتها رسميا تشريعاتٍ فلسطينية، تصدر عن الرئيس محمود عباس، تشمل عقوبات كبيرة لمن يخالف قرارات المقاطعة. ومن الضروري إدخال موضوع المقاطعة وأشكالها ضمن المنهاج الفلسطيني، وتنظيم محاضرات توعوية، عبر الفضائية والإعلام الفلسطيني، للطلاب ولكل قطاعات الشعب الفلسطيني، لكي يرافق التعديل التشريعي وعي واضح لأهمية تطبيق المقاطعة وكيفيته، من خلال معرفة المواطن الفلسطيني أهمية دعم المنتوج الوطني، ووقف الاعتماد على المنتوج الإسرائيلي، ولو كان أكثر جودة وأفضل سعرا، فأهمية المقاومة الشعبية السلمية في قدرتها على إشراك حقيقي لكل شرائح المجتمع الفلسطيني.
يتطلب تبنّي القيادة الفلسطينية حركة المقاطعة وأدبياتها تشريعاتٍ فلسطينية تشمل عقوبات كبيرة على من يخالف قرارات المقاطعة
ويتطلّب الأمر وضع أسس لحملة إقليمية ودولية، يتم خلالها تجنيد كل السفارات والمؤسسات الفلسطينية في الخارج، للهدف نفسه، والاستفادة من الزخم العالمي الكبير المناصر للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. فهل يعقل أن مصر، وهي دولة عربية كبرى، تستمر في اعتقال منسق حملة المقاطعة في مصر، رامي شعث، منذ يوليو/ تموز 2019، تلبية لرغبات إسرائيل؟ يجب أن تشمل المقاطعة أي دولة تقدم خدمة للمحتل، حتى لو كانت أكبر وأهم دولة عربية. وفي هذا المضمار، يجب تكثيف المقاطعة لدولة الإمارات، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، كما من الضروري مقاطعة أي بضائع أو خدمات لها، ولأي دولة تقوم بالتطبيع مع المحتل. وبذلك يتم رفع تكلفة الاحتلال ومعاونيه، ويغلق الطريق أمام أي دولة أخرى، تفكّر بالتطبيع قبل إنهاء الاحتلال.
شعبياً، هناك كثير يمكن عمله في مجال المقاومة الشعبية السلمية، شرط التزام حديدي بشروط تلك المقاومة، ففي تطبيق مبدأ السلمية، يجب التزام الجميع بعدم تسليح المقاومة وعسكرتها، مهما كان لذلك رومانسية معينة، فالكل يذكر النجاح الباهر الذي شكلته الانتفاضة الأولى غير المسلحة. ويجب تطبيق ذلك عمليا من دون السماح لأحد بتخريب مبدأ السلمية، لأن قدرة المقاومة أن تستمر شعبيةً مبنية على التزامها بالسلمية. وفي مجال مناهضة ضم إسرائيل أراضي فلسطينية في الضفة الغربية إليها يجب وضع خطة شعبية واسعة للزحف الشعبي إلى كل المناطق المهدّدة بالضم، وإيجاد واقع شعبي معاكس للضم، بحيث يصبح الضم مكلفا على المحتل.
أثلجت صدور الشعب الفلسطيني رؤية بعض قيادات متصارعة متفقةً على ضرورة وضع استراتيجية عملية للمقاومة الشعبية السلمية
لا يمكن للمقاومة الشعبية أن تعمل من دون التفاف جماهيري حولها، ما يعني أن من الضرورة القصوى العودة إلى الشعب، والحصول على تفويض منه، في انتخابات تشريعية ورئاسية، وانتخابات لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني. لقد وفّرت جائحة كورونا إمكانيةً واسعةً للتعامل عن بعد من خلال تقنيات إلكترونية متوفرة الآن في كل بيت، فما هو المانع أن تتم الانتخابات في أسرع وقت في كل مكان، وإذا تعذرت أي منطقة، مثل القدس أو غزة، أو مناطق في الشتات لا مانع من استخدام التصويت الإلكتروني الآمن. ولدى الشعب الفلسطيني كوادر قادرة على وضع نظام آمن وسهل الاستخدام، إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية لذلك.
وقد أثلجت صدور الشعب الفلسطيني، ولأول مرة منذ سنوات، رؤية بعض القيادات المتصارعة متفقةً على ضرورة وضع استراتيجية عملية للمقاومة الشعبية السلمية. ترجمة تلك الإرادة إلى برنامج عملي سهل وممكن، في حال توفر الإرادة، ومع ضمانات الرئيس بأن لا يتم التدخل من أي طرفٍ لتعطيل عمل اللجان المنبثقة عن اجتماع الأمناء العامين.