لإيثاكا أكثر من طريق

06 نوفمبر 2017

شارع في جبل اللويبدة في عمان (فيسبوك)

+ الخط -
في بيتٍ من بيوت جبل اللويبدة، التي تطل على الجانب الشرقي من عمَّان، وتكاد تسمع من برندته الكبيرة نبض وسط البلد الخافق أبداً، سهرت مع أصدقاء بعثوا، بإصرار، ذكريات قديمة، عرفتها في هذا الجبل خصوصاً، وفي عمَّان، التي لم تكن مدينتي الأولى، عموماً. في الطريق إلى هذا البيت العمَّاني القديم، مررت بشوارع الجبل الضيقة، التي لا تزال تعبق بروائح ياسمين وكولونيا وقهوة تنبعث من مقاهي الرصيف العديدة. لم يتغير، كثيراً، جبل اللويبدة، أيقونة عمان المرصّعة بالحجر الأبيض، وخطى الشبان الذين راحوا يربطونه بعالم كوزموبوليتاني، لا يني يخترق الهويات ويطبعها بوشمه، فقد احتفظ المعمار بوجهه الأبيض، الكالح بمرور الزمن، وظل أقرب إلى ما كان عليه، عندما بدأت عمَّان تأسيس هويتها عاصمةً لبلدٍ فريدٍ في نشأته، اختلطت فيه جماعات وأصول من محيطه، جاءت مع ألوية الثورة العربية الكبرى التي حلمت بكيان عربي، ما بعد عثماني، يبدأ من أرض روم وقد ينتهي بالحجاز. هذه نشأة فريدة قامت على فكرة، رحّب بها أهل البلاد، وامتزجوا بها وكونوا، معاً، هوية أردنية جديدة. تعيدني الذكرى المنبعثة، بإصرار، على برندة بيتٍ عمّاني رحبة، إلى خطاي الأولى في شوارع هذا الجبل المُنمنم.
إنه المكان الذي كان يضم رابطة الكتاب الأردنيين التي دخلتها، أول مرة، بـ "شحّاطة" وقضيب خيزران، وثلاث، أو أربع، قصائد منشورة، والمكان الذي مشيت في طرقه مع أصدقاء توزّعوا على جهات عدة، مات بعضهم في المنافي، وعاد آخرون إلى وطن حلموا بتغييره ولم يفلحوا. وهو المكان الذي شهد أول علاقة حبٍّ لي مع فتاة من المدينة، لكنها لم تتطور كثيراً، ولما انتهت لم تترك جرحاً، أو غصَّة. وهذا نوع ممتاز من الحب. إنه بلا ندوب. بقليلٍ من الحبر المسفوح على مذبح كيوبيد، ولكن بلا أثرٍ لسهامه المصوَّبة إلى القلب.
لجبل اللويبدة شخصية مختلفة عن باقي جبال عمّان. إنه في الجهة الغربية من المدينة، ولكنه ليس جبل البورجوازية، بل الطبقة الوسطى. فيه مقاه وغاليريات ومراكز ثقافية حكومية وأهلية تسهم في قسط كبير من النشاط الثقافي في العاصمة.
مثل الأمكنة القديمة في عمّان، يعكس جبل اللويبدة النمط المعماري الذي عرفته المدينة الحديثة، عندما اختيرت لتكون عاصمة إمارة شرق الأردن عام 1921. كان معظم المعماريين الذين أنشأوا البيوت والمؤسسات الأولى في الكيان السياسي الوليد من الذين عاشوا في العهد العثماني، وتأثروا بنمطه في العمارة. يمكن لمس هذا النوع من المعمار في بيوت جبل عمان واللويبدة، المكانيْن المفضلين للنخبة السياسية والاقتصادية الأولى للبلاد.
في تلك السهرة على برندة مفتوحة على فضاء المدينة، وجدت نفسي في فخ من الأسئلة التي نسيتها، أو لم أعد أفكّر فيها بعد أربعين عاماً، بالتمام والكمال، على مغادرتي الأردن إلى رحلةٍ بلغت ضعفي رحلة عوليس في طريقه إلى إيثاكا.
أين المكان الأردني في أعمالك؟ ماذا؟ المكان الأردني بأعلامه وشواخصه ونقاطه الفارقة؟ الغريب أن هذا السؤال يضرب صفحاً عما كتبته عن المكان الأردني، وعمّان تحديداً، في أعمالي الشعرية الثلاثة الأولى. إنه سؤالٌ موجَّه للروائي فيَّ على ما يبدو، وليس للشاعر الذي في وسعه تعداد عشرات القصائد جواباً. كان سؤالي المعاكس: هل تمكن كتابة رواية أردنية من دون "حياة" أردنية؟ هل يمكن أن تكون الرواية وليدة الذاكرة فقط، أو ما تبقّى فيها من شظايا حياةٍ في مكانٍ ما؟ ممكن بالطبع. هناك رواياتٌ كثيرة مستمدة، كلها، من ذاكرة بعيدة: أردنياً يمكن طرح رواية "سلطانة" لغالب هلسا دليلاً على ذلك. ولكن غالب هلسا، الأردني الأصل، المصري الحياة، لم يكتب روايةً أردنية إلا هذه، وفي أواخر حياته، كأنها محاولة لربط حبل سرَّةٍ انقطع بينه وبلاده، كأنها عودةٌ إلى بلد غادره في التاسعة عشرة من عمره ولم يعد إليه إلا في تابوت. وضعي مختلفٌ عن غالب. فانقطاعي عن الأردن، تماماً، لم يستغرق سوى ثلاثة عشر عاماً، ثم صار في وسعي العودة متى شئت. وفعلا صرت أعود إلى بلادي، تقريباً، كل عام. لم يسمِّ غالب هلسا نفسه باسم بلد. اسمه العائلي يعيده إلى جنوب الأردن الذي يختلط فيه المسلمون بالمسيحيين في لحمةٍ ثقافيةٍ واحدةٍ لا يفرّقها سوى مئذنة المسجد وصليب الكنيسة، لكن غالب، في عمق نتاجه، بل حتى في لهجته، كاتب مصري. وأمكنة معظم أعماله مصرية. عاش حياةً مصريةً، في الصميم، وكتبها.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن