ينظر البرلمان التونسي، اليوم الخميس، في لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي، في جلسة بلا نقاش وبتصويت سري للنواب، تماماً كما كانت جلسة انتخابه، ما يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات ورهن تحالفات اللحظات الأخيرة التي قد تنسج قبل موعد التصويت.
وعلى الرغم من إبداء حركة النهضة ثقتها بعدم القدرة على سحب الثقة من رئيسها في البرلمان اليوم، إلا أن تصريحات أعضائها في الأيام الأخيرة، بما في ذلك الحديث عن "ضغوط وأموال توزع"، تجعل السيناريوهات غير محسومة. ويبلغ عدد النواب الموقعين على مطلب سحب الثقة 89 نائباً، وهو لا يكفي لتحقيق الأغلبية المطلقة (109)، ما يفرض عليهم إقناع 20 نائباً إضافياً بالانضمام إليهم.
طُرح اسم النائبة الأولى لرئيس البرلمان سميرة الشواشي لخلافة الغنوشي
وتظهر خريطة توزع الأصوات داخل المجلس النيابي، أن الشق الداعم لرئيس البرلمان يضم كتل "حركة النهضة" (54 نائباً)، و"ائتلاف الكرامة" (19 نائباً)، الذي أعلن مسبقاً أنه غير معني بسحب الثقة من الغنوشي وقرر عدم المشاركة في جلسة اليوم. على المقلب الآخر توجد كتل "تحيا تونس"، و"الإصلاح"، و"الديمقراطية"، التي تضم "حركة الشعب" و"التيار الديمقراطي". وهؤلاء سبق أن تقدموا بمشروع اللائحة لسحب الثقة من الغنوشي، وجمعوا تواقيع 73 نائباً (العدد القانوني اللازم)، وانضمت إليهم كتلة "الحزب الدستوري الحر"، التي ترأسها عبير موسي (16 نائباً).
وبذلك يبقى الحسم عملياً بيد كتل "قلب تونس" (27 نائباً)، و"الوطنية" (11 نائباً)، و"المستقبل" (9 نواب)، بالإضافة إلى 8 نواب غير منتمين لكتل. وكانت كتل "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" و"المستقبل" ومستقلين، قد تقدموا بلائحة سحب الثقة من الحكومة بـ105 أصوات، ما يعني أنهم قادرون على إسقاط مشروع معارضيهم إذا لم يتغير تحالفهم مع المعطيات الجديدة التي فرضها الصراع السياسي.
وسيكون التصويت على الثقة بالغنوشي مرتبطاً بتطور الأحداث على مستوى تشكيل الحكومة وبالمشهد العام في البلاد. كما سيكون على حزب نبيل القروي أن يحدد بوضوح استراتيجية تحالفاته إزاء هذه التطورات المتلاحقة التي تشهدها البلاد. وفي تعليق له بعد اجتماع مكتب المجلس لتعيين موعد الجلسة، أكد الغنوشي، أخيراً، أنه قبِل عرض نفسه على تجديد الثقة في جلسة عامة، إيماناً منه بالديمقراطية، وتأكيداً على أنه لم يأت على ظهر دبابة، "وبالرغم من أن اللائحة ساقطة شكلاً، وبها إخلالات إجرائية تتعلق بالتواقيع، قبلت ذلك من أجل الديمقراطية ومن أجل زملائي المحترمين. لا يمكن لرئيس البرلمان البقاء للحظة واحدة دون موافقة النواب، ولذلك قبلنا هذا الاختبار لتجديد الثقة، وليس سحبها". وتعكس ثقة الغنوشي هذه تأكيداً على أن معارضيه عاجزين عن جمع الـ109 أصوات الضرورية لسحب الثقة، وأنه متيقن من حلفائه، كتل "قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" و"المستقبل" ونواب مستقلين، وهو التحالف الجديد الذي نجح في الضغط على إلياس الفخفاخ ليستقيل من منصبه في رئاسة الحكومة.
نواب من "قلب تونس" طالبوا رئيسه نبيل القروي بأن يترك لهم حرية التصويت في الجلسة
وفي السياق نفسه، أكدت النائبة عن "حركة النهضة" يمينة الزغلامي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "حركة النهضة وكتلتها البرلمانية تعتبران أن مسألة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي آلية ديمقراطية، ومن حق النواب الذين صوتوا سابقاً وانتخبوا الغنوشي سحب الثقة منه في إطار الديمقراطية". وأشارت إلى أن "النهضة لا تخيفها الآليات الديمقراطية، بل بالعكس هي تقدم رسالة لأبناء الحركة ولكل التونسيين بأن يوم الخميس، ومهما كانت النتيجة، سواء ببقاء رئيس البرلمان أو مغادرته، فإن الديمقراطية هي التي ستنتصر، وتونس ليست أمام إنقلاب أو مؤامرة وإنما أمام آلية ديمقراطية".
وأوضحت الزغلامي أن "الغنوشي لديه من الأطر والمجالات التي يمكنه أن يعمل فيها، وأن يسعى، من أي موقع، إلى تمتين التجربة التونسية وتقديم الحلول التي تساعد تونس". وحول تصريحات بعض النواب بنجاحهم في جمع العدد المطلوب لسحب الثقة من الغنوشي، قالت الزغلامي إن "هذا ما سيبينه صندوق الإقتراع في جلسة التصويت". وبينت أن "الغنوشي، بعرض نفسه على جلسة سحب الثقة، حسم نقاشاً حول نقاط شكلية وإجراءات تنظيمية كان يمكن الطعن فيها، لكنه عبّر عن موقفه الذي يقضي بضرورة عرض هذه اللائحة على التصويت".
في مقابل ذلك، خرجت أصوات معارضة للغنوشي، الثلاثاء الماضي، تؤكد أنها جمعت الأصوات اللازمة لإسقاط الغنوشي. وأعلن العضو المستقل بمجلس نواب الشعب (البرلمان) المنجي الرحوي أن اسم النائبة الأولى لرئيس البرلمان سميرة الشواشي طُرح لخلافة الغنوشي، في حال سحب الثقة منه. وأشار الرحوي إلى أن الكتل الموقّعة على لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان ''ليس لها أي اعتراض على اسم الشواشي''. وقال رئيس الكتلة "الديمقراطية" هشام عجبوني، في تصريح لإذاعة "موزاييك": ''نحن لا نرى مانعاً في تولّي سميرة الشواشي رئاسة البرلمان، بناء على ما اكتسبته من خبرة في تسيير وإدارة المجلس".
يراقب معارضو "النهضة" من الخارج تطورات هذه المعركة، ويمنون النفس بسقوط الغنوشي
والشواشي نائبة عن حزب "قلب تونس"، الذي أصبح فجأة مقرباً من الجميع، ولا مشاكل لـ"التيار الديمقراطي" معه، برغم أنه اعترض على دخوله الحكومة. لكن الحقيقة هي أن معارضي الغنوشي مستعدين لأي تحالف في سبيل إسقاطه، بما في ذلك مع "الدستوري الحر"، ويحاولون استمالة نواب "قلب تونس" أو جزء منهم لقلب المعادلة العددية لصالحهم. وتشير بعض الكواليس إلى أن بعض نواب هذا الحزب طالبوا رئيسه نبيل القروي، بأن يترك لهم حرية التصويت في هذه الجلسة، وفق ما أكدته مصادر حزبية لـ"العربي الجديد".
وتؤشر هذه الاستماتة في تغيير رئيس البرلمان إلى رمزية هذه المعركة، إذ يعتبر معارضو "النهضة" أن النجاح في سحب الثقة من الغنوشي سيكون بمثابة انتصار سياسي ومعنوي هام نحو تقليم أظافر الحركة التي تتحكم في المشهد منذ سنوات، مهما كانت طبيعة التحالفات وبأي ثمن، حتى لو كان التقارب مع الأضداد. ويراقب معارضو "النهضة" من الخارج تطورات هذه المعركة، ويمنون النفس بسقوط الغنوشي، برغم أنه محدود الفاعلية السياسية، ولن يغير في طبيعة المشهد كثيراً، لأن البرلمان السابق كان قد ترأسه النائب من "نداء تونس" محمد الناصر، وترأس التأسيسي من قبله مصطفى بن جعفر عن حزب "التكتل"، فيما كانت "النهضة" دائماً رقماً صعباً بحكم وجودها الفعلي في الميدان وليس في رئاسة المجلس.
وأكد رئيس كتلة "حركة النهضة" النيابية نور الدين البحيري، في تصريحات صحافية بالبرلمان الثلاثاء الماضي، أن "ضغوطات تمارس من داخل البلاد وخارجها بأموال إماراتية توزع على النواب من أجل سحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب، في إطار خطة إماراتية لتدمير المنظومة السياسية في تونس، انطلاقاً من البرلمان، وإحداث فراغ فيه بتنحية رئيسه وتعطيل تزكية الحكومة المقبلة، وذلك سيؤدي لدفع البلاد نحو الفراغ". ورد عليه رئيس الكتلة "الديمقراطية" هشام العجبوني بدعوة القضاء للاستماع إلى البحيري على خلفية تصريحه حول تلقي عدد من النواب لأموال من دول أجنبية من أجل التصويت تأييداً لسحب الثقة من الغنوشي.
وفي ظل هذه الأجواء، كان الأبرز موقف "ائتلاف الكرامة" الذي قرر عدم حضور الجلسة، معتبراً أن "مشروع لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس، دعت إليها كتلة (الرئيس المخلوع زيد العابدين) بن علي الفاشية، وساندتها الكتلة الديمقراطية ومجموعة من الكتل التجمعية الأخرى، بحجة سوء تسييره للمجلس".
واعتبر، في بيان، أن "هذه المعركة لا تعنيه في شيء، وأنها بالأساس معركة منظومة بن علي الفاسدة التي قسّمت التونسيين، ودمّرت بها الحياة السياسية لأكثر من 20 سنة، قبل أن يورّثها لبقاياه التي رحمتها الثورة، لكنها لم تعتبر بعد من مصيره". وأضاف "أمام كل ما يروج في أروقة المجلس وخارجه من حديث متواتر عن رصد بعض الجهات الداخليّة والخارجيّة لمبالغ خرافيّة كمقابل لشراء ذمم النواب، بهدف إشباع بعض نزوات الحقد الأعمى لبعض فضلات منظومة بن علي، ولبعض أنظمة الاستبداد العسكري الدموي، المسنودة من بعض أنظمة العمالة والاستبداد المعادية للحرية وللديمقراطية ولثورات الشعب العربي، ولتوقه الشديد للانعتاق من الاستبداد الداخلي ومن الاحتلال الخارجي، فقد قرر (الائتلاف) مقاطعة الجلسة، تبرئة لذمم نوابنا من أي شبهات مهما كانت درجة مصداقيتها". ودعا النواب من "شريفات وشرفاء المجلس أن ينأوا بأنفسهم عن هذه المعركة الفاشستيّة، وأن يقاطعوا عمليّة التصويت هذه، وأن يعلنوا ذلك تبرئة لذممهم، وابتعاداً عن شبهات البيع والشراء، وحتى الاتهامات بالعمالة للخارج". ونبه "كل من يؤمن بقيم ثورة الحريّة والكرامة ودولة القانون والحريّات أن هذه اللائحة ما هي إلا بداية تجييش رموز المنظومة البائدة للانقلاب على مكتسبات الثورة، وعلى قيم التعايش السلمي، وقبول التونسيين ببعضهم البعض، وحسن إدارة خلافاتهم السياسية بعيداً عن أمراض الفاشيّة والاستبداد والتخلّف التي قامت عليها ثورة الحريّة والكرامة واستشهد من أجلها أفضل شباب تونس".