ورغم التحالف الثلاثي المؤقت الذي عقدته أنقرة مع كل من طهران وموسكو بما يخص القضية السورية، والذي تبلور بشكل أفضل بعد القمة الثلاثية في العاصمة التركية أنقرة، فإن هذا التحالف لم يظهر، في أي وقت من الأوقات، توافقاً تاماً بشأن جميع التفاصيل الخاصة بالأزمة السورية، إذ إن أنقرة لم تتراجع عن موقفها الداعي لرحيل بشار الأسد عن السلطة لتحقيق الاستقرار في سورية. ويتعلق هذا التحالف، الهش للغاية، بالنسبة للإدارة التركية بنقطة أساسية، هي الضغط على الأميركيين والفرنسيين للتخلي عن مليشيات "الاتحاد الديمقراطي" والتعاون مع تركيا، بينما يتمثل بالنسبة للروس والإيرانيين بضرب النفوذ الأميركي عبر ضرب "الاتحاد الديمقراطي"، وذلك من دون أن يتم التوافق بين الحلفاء المؤقتين الثلاثة على أي استراتيجية واضحة أو خطوات على الأرض.
ولا يمكن الحديث عن تحالف تركي روسي، أو تركي إيراني حقيقي، فالتاريخ يقول عكس ذلك، كما أن المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية التركية لا تزال تعتمد بشكل أساسي على الغرب، وبالذات في ما يخص التبادل التجاري التركي، إذ إن نصف الصادرات التركية تذهب إلى أوروبا، بينما لا يزال الجيش التركي يعتمد من ناحية التدريب والتسليح على الغرب والحلف الأطلسي بشكل جوهري، رغم المحاولات المحمومة التي بذلتها أنقرة خلال العقود الأخيرة فيما يخص التصنيع المحلي للسلاح. أما على المستوى التاريخي، فالعلاقة مع الغرب تمتد إلى عصر التنظيمات التي دعمتها بريطانيا، بينما كان التحالف الألماني العثماني أساسياً منذ عهد السلطان عبد الحميد الثاني والحرب العالمية الأولى. وقد تحولت الجمهورية الوليدة إلى جمهورية أوروبية، بعد دخولها إلى جميع المؤسسات الأوروبية باستثناء العضوية في الاتحاد الأوروبي.
وفي جميع مراحل التقارب مع الروس، لم يخرج الأتراك عن الإجماع الغربي في أي من المواضيع الأساسية، فلم تعترف أنقرة بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ولم تقبل باستمرار الأسد في السلطة، كما لم تتخل عن مسار جنيف، ولم تعادِ سوى دعم واشنطن لمليشيات "الاتحاد الديمقراطي"، مع الإصرار على عضويتها التي لا يمكن التراجع عنها في حلف شمال الأطلسي، وذلك بينما اقتصر التعاون والتقارب مع الروس على تبادل مناطق النفوذ في سورية بما يخدم مصالح الطرفين ويساهم في الضغط على حلفاء أنقرة التاريخيين للتخلي عن حزب الاتحاد الديمقراطي. وكذلك لم تخرج تركيا عن إجماع الحلفاء الغربيين في الموقف من الضربات ضد النظام السوري- طالما لا تستهدف الروس والإيرانيين- بعد مجزرة الكيميائي التي ارتكبها في مدينة دوما في ريف دمشق. فلم تمض ساعات على توجيه الضربات حتى أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً أيدت فيه الضربات، لكنها سارعت إلى الاتصال بمختلف الأطراف للحفاظ على مصالحها، خصوصاً أن أنقرة لا يمكنها التوافق بشكل كامل مع الغربيين طالما يدعمون "الاتحاد الديمقراطي"، وكذلك بعد أن بات تواجدها، بشكل أو بآخر، مرهوناً باستمرار فتح موسكو للأجواء السورية أمام الطيران التركي. لكن أنقرة لا يمكنها التوافق بشكل كامل مع الإيرانيين والروس طالما استمروا بدعم النظام السوري، الذي لعب دوراً رئيسياً في تأسيس حزب العمال الكردستاني ودعمه.
وعمدت أنقرة للعب دور الوسيط بين موسكو وحلف شمال الأطلسي بحسب التصريحات الروسية، إذ أجرى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال أقل من 72 ساعة، مكالمات هاتفية بكل من رؤساء أميركا دونالد ترامب، وروسيا فلاديمير بوتين، وفرنسا إيمانويل ماكرون، وإيران حسن روحاني، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي. وأكد مصدر تركي مطلع، لـ"العربي الجديد"، أن الموقف التركي لم يتغير، وأن سياسات الحكومة التركية لم تخرج عن تلك التي تم وضعها منذ بداية عملية "درع الفرات" في سورية. وقال "هناك خطة موضوعة للتعامل مع الحرب السورية منذ بدء عملية درع الفرات، وجوهر هذه الخطة يقوم على اتباع سياسات ترفع من تأثير الدور التركي في سورية بكل السبل، سواء باستخدام العمليات العسكرية والسيطرة على الأرض، كما حدث في عملية درع الفرات وعملية غصن الزيتون في عفرين، أو عبر العلاقات والتفاهمات السياسية، كما حصل مع روسيا وإيران فيما يخص منطقة خفض التصعيد في إدلب وغيرها، أو من خلال استمرار الحوار مع أميركا وباقي الحلفاء الغربيين لدفعهم إلى التخلي عن مليشيات الاتحاد الديمقراطي، وهذا أمر لم يتم التراجع عنه. ولكن على العكس من ذلك، فقد تم تعزيز هذه الخطة، وباتت تركيا لاعباً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية في سورية أياً كان شكلها". ورفض المصدر أي ربط بين العلاقة التركية الروسية والتحالف التركي الغربي التقليدي. وقال "نحن ندعم الضربة التي شنتها واشنطن ضد الأسد بسبب مجزرة الكيميائي التي ارتكبها، وفي الوقت ذاته نستمر في تعاوننا مع روسيا في ما يخص عفرين، وتعزيز علاقاتنا مع روسيا لا يعني تدمير علاقاتنا مع حلفائنا في حلف شمال الأطلسي. الأمران منفصلان. وتتشابك مصالحنا مع روسيا ليس فقط في سورية ولكن في البلقان والقوقاز ووسط آسيا، وكذلك الأمر مع حلفائنا".
وبينما عقّب البيت الأبيض على تصريحات ماكرون التي أكد خلالها أنه تمكن من إقناع الرئيس الأميركي بالبقاء في سورية، بالتأكيد أن موقف ترامب لم يعدل عن ضرورة سحب القوات الأميركية بأسرع وقت ممكن، فقد ردت الحكومة التركية على تصريحات الرئيس الفرنسي حول نجاح الضربة بإبعاد أنقرة عن موسكو بنفي أي تغيير في السياسات التركية المتعلقة بسورية. وقال نائب رئيس الوزراء التركي، والمتحدث باسم الحكومة، بكير بوزداغ، خلال زيارته إلى الدوحة، إن "سياستنا في سورية تقوم على الوقوف إلى جانب الحق. نحن نقف ضد دعم النظام السوري وكذلك التنظيمات الإرهابية، ونحن ضد تحويل المنطقة إلى ساحة مصارعة"، في إشارة إلى دعم باريس لمليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي. وأضاف بوزداغ إن "سياسة تركيا في سورية لا تقوم على الوقوف إلى جانب أو ضد دولة ما، لا يوجد أي تغييرات في السياسات التي حددتها تركيا فيما يخص الموضوع السوري"، مضيفاً "نحن لا نتفق مع سياسات الولايات المتحدة فيما يخص الاتحاد الديمقراطي. وهذا موقف لم يتغير. ونحن أيضاً ضد دعم النظام من دون حدود، ونحن هنا مختلفون عن روسيا وإيران في هذا الموقف. إن تركيا ليس لها أهداف متطابقة بشكل كامل، سواء مع إيران وروسيا أو مع الولايات المتحدة". كما أن وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو رد على ماكرون، مؤكداً أن "الحديث عن أن الضربة باعدت ما بين روسيا وتركيا أمر غير صحيح".
كما أكد المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن الضربة الثلاثية لم تنجح في دق إسفين الخلاف بين روسيا وتركيا. وقال "ليس سراً أن موسكو وأنقرة تختلفان في عدد من القضايا. هذا لا يمنعنا من تبادل الآراء ومناقشة اختلاف المواقف، وهو لا يؤثر على آفاق التعاون متعدد الأوجه، وتنفيذ المشاريع الكبرى". من جهته، أوضح أردوغان أنّ "عمليات تركيا العسكرية في سورية لها هدفان، الأول دحر التهديدات الإرهابية والثاني تهيئة منطقة آمنة صالحة للعيش وإعادة اللاجئين إليها". وكرر تأكيده أن بلاده "لا تطمع في اقتطاع أجزاء من أراضي دولة أخرى".