أحد عشر عاماً مرت، وأبناء بلدة بلعين، غربي رام الله، لم يكلّوا أو يملّوا.. خرجوا إلى الشوارع بتظاهرات دورية تحت شعار المقاومة السلميّة، للاحتجاج ضد جدار الفصل العنصري الذي يقضم أراضي بلدتهم لصالح المستوطنات المحيطة.
أكثر من أربعمئة مسيرة أسبوعية منذ فبراير/ شباط عام ألفين وخمسة توجهت إلى نقاط التماس مع جنود الاحتلال، وقدم خلالها الأهالي شهيدين، ليشكل تحركهم المتواصل حالة خاصّة في تاريخ المواجهة مع الإسرائيليين.
حالة نجحت باستقطاب العشرات من المتضامنين الأجانب للمشاركة في الفعاليات الأسبوعية، الذين نقلوا بدورهم الصورة إلى الرأي العام الغربي، حتى باتت تشكّل التظاهرات عامل ضغط على القيادة الإسرائيلية التي اضطرت نهاية الأمر إلى تحويل مسار بعض أجزاء الجدار والإفراج عن عشرات الدونمات من أراضي المواطنين الزراعية، للتخفيف من وطأة الانتقادات الدولية.
وفي هذا الصدد، لا بد لنا من استحضار تجربة "موهنداس كرشمند غاندي"، الملقب بالمهاتما، وهي الأنجح في تاريخ حركات المقاومة اللاعنفية مع نجاحه بطرد الاحتلال البريطاني من الهند قبل قرن من الزمن من خلال اعتماد أقصى درجات التحمّل لاستفزازات الخصم واعتداءاته، والامتناع عن الرد على عنفه بعنف مماثل، والهدف واضح وهو إيصال المحتلّ إلى مراحل إجرامية لا يعود قادرا على تحمّل أثمانها أمام الرأي العام والضمير العالميين فيعلن معها استسلامه وانسحابه.
وإذا ما أردنا مقاربة التجربة الهندية مع ما يحصل في الأراضي الفلسطينية، فإنه وعلى الرغم من نجاح هذا النموذج بتعميم ثقافته وتوسيع مروحته لتشمل عدداً من بلدات الضفة الغربية -ومما لا شكّ فيه أن أهالي بلعين سجّلوا رقماً قياسياً في الصبر والإصرار - إلا أنه لا مجال للمقارنة بين التجربتين أو حتى الأمل بتحقيق نتائج مشابهة، فالاحتلال البريطاني عندما أجبر على الانسحاب عاد جنوده أدراجهم إلى الوطن الأم، أما في الحالة الفلسطينية - ولنكن واقعيين ـ الاحتلال الإسرائيلي يعتبر أرض فلسطين هي الوطن، ولن يتخلى عنها بسهولة ولو نزل الشعب بأسره إلى الشوارع.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي لعبه الرأي العام البريطاني في الضغط على القرار الحكومي للانسحاب آنذاك، بينما الرأي العام الإسرائيلي لا يعارض بل يؤيد بشكل شبه مطلق تشديد الإجراءات القمعية في مواجهة الفلسطينيين.
ومن هنا لا بد من طرح الكثير من الأسئلة حول الفائدة المرجوّة من استمرار مثل هذه التحركات وقدرتها على تحصيل الحقوق الكبرى للشعب الفلسطيني، التي تتعدى استرداد بضع أمتار من الأرض هنا وهناك (مع التقدير الكبير لنبل وصدق مساعي من ينفذ التحركات الشعبية).. وهل تحاول السلطة الفلسطينية تكريس مثل هذه المسيرات كبديل عن المقاومة المسلحة؟ وتوظيفها كمساحة لتنفيس الاحتقان الشعبي كي لا ينفجر الشارع في وجه سياسة التنسيق الأمني التي تتبعها؟ كيف لا وقد دأبت قناتها التلفزيونية الرسميّة على الترويج لأغنية كلماتها "ازرع ليمون ازرع تفاح.. لا تخلي المحتلّ يهدا ويرتاح"، وهي أغنية ركيكة المضمون والألحان أصلاً تدعو لمواجهة الاستيطان بزراعة الزهور والفاكهة.
وفي الختام، لا بد من مقارنة بسيطة بين أحد عشر عاما من التظاهرات اللاعنفية وبين الهبّة الشعبية التي تدور حالياً في القدس والضفة الغربية، نجد أن الأخيرة كانت أكثر إيلاماً وتأثيراً على الحكومة الإسرائيليّة، خاصّة مع مقتل 32 إسرائيلياً وجرح أكثر من 300 آخرين، بينهم 28 إصاباتهم حرجة، وذلك وفقاً لمعطيات "نجمة داوود الحمراء" الأخيرة، وقد تنجح - إذا ما تواصلت بالزخم نفسه – بإجبار السلطات الرسمية الإسرائيلية على الرضوخ لمطالب الشبان الثائرين، ما يدفعنا للخروج بنتيجة واحدة ألا وهي أن جلاء المحتلين عن الأوطان يحتاج إلى أكثر من كوفيّة وعلم وشعار حماسي..
(فلسطين)