أدرك الكاتبُ عند العرب قديماً مكانة جليلة، ولا أدلّ على ذلك من عنايتهم بكل تفصيل يخصّ عمله وحياته، خصوصاً لدى كُتّاب البلاطات، الذين كانوا يُعدُّون الكُتّاب الحقيقيّين وألسنةَ حال سادتهم، حتى إنهم كانوا يُنعتون بالوزراء كحال لسان الدين ابن الخطيب، الذي كان يُلقَّب بذي الوزارتيْن من ضمن ما كان يُلقَّب به.
ولقد اشتُهرتْ كتُبٌ عديدة في تراثنا، أولتْ الكتابة والكاتب اهتماماً لافتاً، ولعل أبرزها على الإطلاق الموسوعة الأدبية لأبي العباس شهاب الدّين القلقشندي (756هـ -821هـ)، مؤلِّف كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الذي لم يكتف فيها بالتطرُّق إلى التكوين المعرفي والسلوكي للمترجم، بل خاض في دقائق تخص الكتابة؛ من اختيار الأوراق وبري الأقلام وصناعة الأمِدَّة، وغيرها. لأن "الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها، وأربح الضائع وأنفعها، وأفضل المآثر وأعلاها، وآثر الفضائل وأغلاها".
من الأمور اللافتة التي استعرضَها القلقشندي ملاحةُ زيِّ الكاتب، فذكر أنَّ محمد بن إبراهيم الشيباني اشترط في الكاتب صفات من بينها "ومن حاله أنْ يكونَ بهيَّ الملْبَس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عَطِر الرائحة" وأضاف المهذَّب بنُ مماتي: "أمّا حُسن الهيئة فإنه يرجع في ذلك إلى ما لا يعلمه من حال مخدومه من إيثاره إظهار نعمته على من هو في خدمته أو إخفائها".
وبالانتقال إلى عصرنا الحديث، بوُسعنا أن نتساءل: هل يحتاج المترجمُ حالياً، بصفته كاتباً، إلى أن يرتدي لباساً ذا مَلاحة؛ على غرار الذي كان يرتديه الكاتب قديماً؟ إجابة على هذا السؤال، أتصوَّر أنه ينبغي أن نُمَيِّز بين نوعيْن من المترجِمين: الأوّل هو المترجِم التَّتبُّعي، وهو غير الفوريّ الذي يترجم داخل مقصورة تعزله عن مُتلَقّيه، بل هو الذي يحضر ملتقياتٍ علمية ومعرفية وسياسية وسواها، فيكون وسط تجمُّعات حيث يتدخَّل بعد المتحدِّث إما مترجِماً كلامه، أو مُلخِّصاً إياه، فهو يصير شخصية عمومية، وهذا المترجِمُ عادةً ما يكون موظَّفاً أو يشتغل ضمن شركة للترجمة، ويُطالَب فيهما بأن يُعنى بأمور من بينها هندامه، الذي يقتضي أن يكون محترَماً، لأن اللباسَ يُقدّم صاحبَه وشخصيتَه إلى العموم، ويبني به صورةً له بين الحاضرين، ويعكس ثقتَه في نفسه، ورصانته، وحالَ رفاهه.
بينما المترجِم الأدبي غالباً ما يشتغل مستقلّاً في عزلة، فهو غالباً ما يتحرك في فضاء يتراوح بين البيت أو المقهى أو المكتبة، ولذلك فهو في حلّ من أنْ يُطالَب بملاحة الزَّيّ إلا في حال مُشاركته في لقاء رسمي، لأن اللقاءات الرسمية تفرض زيّاً بمواصفات معيَّنة على من يقبلون بالمشاركة فيها. بِوُسع هذا المترجم أن يلبس البيجاما في بيته، أو يظهر بلباس البحر في مقهى شاطئيّ، إلخ؛ لأنه يكون بمعزل عن سلطة المؤسَسة التي قد تُكرِهه على لباس بعينه. ولعل هذا النوع من الحرية يتماشى وحالَ الكتابة الإبداعية، التي يكون المترجِم الأدبي يعيشها.
أكيدٌ أنَّ اللباس في كلتا حاليِ المترجِميْن التتبُّعي والمترجِم الأدبي هو مظهر خارجي، والشيءُ نفسُه يصدُق على الكاتب القديم.
ومن الطريف بصدد لباس المترجِم المعلومة التي أوردها الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه "لن تتكلم لغتي" عن المنفلوطي، أحد أبرز "المترجِمين" العرب في زمنه وأكثرهم تأثيراً في القراء، لانتباهه إلى إشارة تَخصُّ الأديبَ والمترجم الأزهري؛ والتي تُفيدُ أنه "كان مولَعاً بالملابس الدَّاخلية الأوروبية، أجل هذا ما يؤكِّده العارفون بأحواله".
قد يتهيَّأ لمتأمِّلي صورة المنفلوطي وهو في زيّه التقليدي أنه رجل محافظ، وقد يرون أنْ لا علاقة بين مَخبره ومظهره، "دون أنْ يفطنوا إلى معناه العميق، المأساوي والهزلي في آن". لكنَّ الحقيقة هي أن ممارسته الترجمة فعلٌ دالّ على اقتناعات ثورية، هي أعمق وألْصَق بفكره من ملابس جسده.