في الأسابيع الأخيرة، التي تلت الاتفاق على قانون انتخابي جديد في لبنان الشهر الماضي، بدأ يخرج إلى العلن ما كان يُهمس به سراً، أي تحالف القوات اللبنانية وتيار المردة في دائرة الشمال الثالثة، الأبرز، التي تضمّ أقضية: البترون والكورة وزغرتا وبشرّي. مجرد التفكير بهذا التحالف في منطقة تمثل الثقل المسيحي الشمالي، وتضمّ 10 نواب، بواقع 2 عن البترون و3 عن الكورة و3 عن زغرتا و2 عن بشرّي، يعني أن التحوّلات بلغت مداها الأكبر. وذلك في ظلّ تكريس تلك المنطقة، نوعاً ما، معركة رئاسية ثلاثية، تلي عهد الرئيس ميشال عون، المفترض أن ينتهي في عام 2022. والمرشحون هم رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ورئيس التيار الوطني الحرّ، وزير الخارجية، جبران باسيل، الذي هو صهر عون أيضاً.
تعود الغرابة في التحالف بين القوات والمردة إلى زمن الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، تحديداً إلى 13 يونيو/ حزيران 1978، اليوم الذي شهدت فيه منطقة إهدن (شمالي لبنان)، معقل المردة، مجزرة أودت بحياة أكثر من 34 شخصاً، بينهم طوني فرنجية، نجل رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية، وعائلته. نجا من المجزرة الجد الرئيس سليمان فرنجية والحفيد النائب الحالي سليمان فرنجية (الذي يحمل اسم جدّه)، اللذين لم يكونا في المنطقة وقت الهجوم. تعدّدت الروايات حول هذا النهار لكن الثابت فيه أن الكتائب اللبنانية، التي انبثقت منها القوات اللبنانية، هاجمت إهدن، وأن سمير جعجع، المتحدّر من بشرّي، كان على رأس المجموعة المهاجمة. بالنسبة للمردة فإن جعجع هو قاتل آل فرنجية، أما القوات فتؤكد أن جعجع أُصيب مع بدء العملية ونُقل إلى مستشفى في بيروت، ولم يقتل العائلة.
عدا عن ذلك، فإن النائب فرنجية يقيم قداساً سنوياً في ذكرى المجزرة، ترافقه حملة إعلامية ومجتمعية مضادة لجعجع وللقوات، بما يشبه تحفيز الذاكرة التي يُفترض أنها تكرّس الخلافات بين الرجلين أولاً، وبين القوات والمردة ثانياً، وبين منطقتي بشرّي (الموالية بأكثريتها للقوات) وزغرتا (المؤيدة بأكثريتها للمردة) ثالثاً. هذا الخلاف تحديداً، يتخطى سياق مجزرة إهدن إلى التاريخ القديم، تاريخ زحف الموارنة من شمال سورية إلى شمال لبنان، وتأسيسهم مجتمعاً قائماً على ثلاثية الكنيسة ـ أصحاب الأراضي الزراعية ـ الفلاحين. وعليه بات للإقطاع مفهوماً لبنانياً، عماده "الفلاحون أتباع لدى أصحاب الأراضي الزراعية". في الكنائس، كان أصحاب الأراضي يجلسون في الصفوف الأولى، فلُقّبوا بـ"المقدّمين"، بينما كان الفلاحون يجلسون في الصفوف الخلفية. النزاع الطبقي وجد نفسه في الخلافات المسيحية ـ المسيحية، أثناء حرب لبنان، وقد تكون مجزرة إهدن إحدى أبرز تجلياته السلبية، بعيداً عن الخيارات السياسية وتقاسم النفوذ المناطقي أو الصراع على السلطة.
مع ذلك، فإن فكرة التحالف بين القوات والمردة، تحمل في طيّاتها الكثير من الاعتبارات والتناقضات. في السياسة لا يتفقان، خصوصاً في الملف السوري: المردة يؤيد النظام والقوات تناصر المعارضة. في لبنان، المردة حليف أساسي لحزب الله، والقوات ترفض سلاح حزب الله. لا يهمّ، المقاعد الـ10 هي الأهم. ففي لغة الأرقام تبدو القوات الأقوى حزبياً على مستوى الدائرة الشمالية الثالثة، فهي الأكثر قدرة على رفع نسب الاقتراع والأقدر تنظيماً، فيما يبدو جهد التيار الوطني الحرّ منصباً فقط على تأمين مقعد نيابي لرئيسه جبران باسيل، أما المردة فيدرك أن سليمان فرنجية وحده سينجو، فيما سيخوض معارك انتخابية قاسية مع آخرين لضمان مقاعد أخرى. بالنسبة للأطراف الباقية، كالمستقلين والحزب السوري القومي الاجتماعي والكتائب اللبنانية وتيار المستقبل، فإن نجاحها مرهون بقدرتها على الاتحاد في لائحة منافسة للائحة الأقوياء، وهو أمر شبه مستحيل.
صحيح أن جعجع وفرنجية تصافحا للمرة الأولى في 19 إبريل/ نيسان 2011، في مقرّ البطريركية المارونية في بكركي (وسط لبنان)، إلا أن لقاءهما لم يكن لا للمصارحة ولا للحديث عن الماضي، بل اقتصر على ما اتُفق على تسميته "تبريد العلاقة بين المسيحيين في الشمال". وذلك بسبب الخلافات الفردية التي وقعت بين أنصار المردة وأنصار القوات في مناطق مختلفة من البترون والكورة بين عامي 2005 و2010، سقط فيها عدد من القتلى والجرحى. حينها تمّ تفعيل "اللجنة الأمنية" بينهما، لمنع وقوع المزيد من الاشتباكات مستقبلاً. في لبنان، إن مفهوم "اللجنة الأمنية"، البديلة للقوى الشرعية، خير دليل على عدم انتهاء ذهنية الحرب اللبنانية، وإنْ انتهت الحرب بحدّ ذاتها.
بالتالي فإن التحالف الانتخابي، في حال تمّ نهائياً، فإن من شأنه جعل القوات أكثر قبولاً لدى أطراف كانت تعاديها. فجعجع نجح لحظة تبنّيه ترشيح عون لرئاسة الجمهورية في 18 يناير/ كانون الثاني 2016، في كسب ودّ قواعد "عدوه" الأساسي على الزعامة المسيحية في لبنان. وفي حال نجح في التحالف مع المردة، فإنه يكون قد فرض نفسه لاعباً أساسياً في الشمال، ومرسخاً نفسه ناخباً أولاً في أي استحقاق سياسي. أما المردة، فإن تحالفهم مع القوات سيؤدي إلى توسيع مروحة حراكهم السياسي شمالاً، من دون إزعاج متبادل. كما يفسح المجال لفرنجية في الحفاظ على علاقة طيبة مع القواعد المسيحية الكبيرة، مستبدلاً خسارته تحالفه مع التيار الوطني الحرّ بتحالف مع القوات، لتأمين عملية "الخروج السياسي المناطقي" من منطقة زغرتا إلى جوارها ونحو جبل لبنان. واللافت أن الحراك التحالفي قد يبدأ في سهرة تنظّمها القوات في 22 يوليو/ تموز الحالي في أحد مطاعم إهدن، في مكان ليس ببعيد عن موقع مجزرة 13 يونيو 1978.