كلّ دول العالم تطوّرت وتقدّمت مع مرور الزمن باستثناء لبنان، الذي يتمنّى شعبه العودة إلى الوراء، إلى زمن "سويسرا الشرق"، الترامواي، الشوارع النظيفة، البيوت المضيئة، إلى عقودٍ كانت فيها بيروت قبلة السياح قبل أن ترتدي اليوم الوشاح الأسود حداداً على وطنٍ كثر فيه الفاسدون وهاجر منه الوطنيون فكانت ورقة النعي صورة التقطها المصور باتريك باز وتناقلتها الصحف العالمية للعاصمة بيروت وهي تغرق في العتمة، فيما رئيس الحكومة يتغنى بإنجازات صوتية ويشكو "نظيره" حسان دياب ويسأله أين هيبة الدولة؟
وفي وقتٍ يعيش فيه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، وتكثر المشاكل اليومية التي تملأ أسطر الصحف ومقدمات النشرات الإخبارية، والتي جعلت اللبنانيين يتمنّون لو يخرق المشهد خبر مفرح واحد بغض النظر عن أهميته، يتصدر أخيراً ملفا الكهرباء وقطاع المحروقات العناوين الرئيسية نظراً لتداعياتهما الكارثية على المستويات كافة.
الأزمة الأولى تتصل بالكهرباء، حيث يمضي اللبنانيون يومياتهم على العتمة نظراً لانقطاع التيار الكهربائي بشكل تام، منذ يوم أمس، بالتزامن مع تصعيد أصحاب المولدات خطواتهم وصولاً إلى إطفاء مولداتهم حتى تأمين المازوت وفق سعر الصرف الرسمي، 1515 ليرة، وتغيير التسعيرة التي تضعها وزارة الطاقة والمياه.
وبحسب معلومات "العربي الجديد"، فإنّ عدداً من أصحاب المولدات في بعض المناطق اللبنانية يعمدون الى تأمين الكهرباء ساعتين فقط خلال النهار وساعتين عند المساء، كما خفّض قسم منهم اشتراك المواطنين من 10 أمبير إلى 5 أمبير بحجة عدم توفر المازوت، الأمر الذي حرم هؤلاء من استعمال أمور أساسية في المنزل ولا سيما المكيف، الذي لا يعمل على كهرباء 5 أمبير في ظلّ موجات الحرّ القاسية.
وأشار وزير الطاقة والمياه ريمون غجر، يوم أمس، إلى أنّه عند أصحاب المولدات الكميات الكافية من المازوت وهم يطالبون باستمرار برفع التسعيرة، لكن للمواطن حقوقاً يجب أن نحافظ عليها.
ووصلت ارتدادات أزمة الكهرباء إلى مستشفى بيروت الحكومي الذي استنفد كميات كبيرة من الفيول المخصص للمولدات في اليومين الماضيين نظراً لارتفاع ساعات التقنين التي تجاوزت، يوم أمس، الـ18 ساعة، ما هدد الأقسام كافة بالعتمة بما فيها غرف العناية الفائقة وغرف مرضى فيروس كورونا والمعدات كلها التي تحتاج إلى الكهرباء لتشغيلها.
من جهة أخرى، استنكر عددٌ من أصحاب السوبرماركت استمرار انقطاع التيار الكهربائي الذي وضعهم أيضاً تحت رحمة أصحاب المولدات، ما من شأنه أن يسبب لهم خسائر كبيرة جداً نظراً لوجود مواد غذائية ستصبح غير صالحة للبيع والأكل بسبب إطفاء البرادات والثلاجات، وكذلك تضرّر الكثير من السلع، ولا سيما الشوكولا والبوظة وغيرها نتيجة انقطاع التيار الكهربائي.
وأغرقت أزمة الكهرباء الشوارع والطرقات في العتمة، الأمر الذي يعدّ خطراً على السلامة المرورية، ومن شأنه أن يؤدي إلى حوادث مرورية قد توقع جرحى وقتلى.
وفي مشهد "مبك – مضحك"، لجأ بعض اللبنانيين إلى السيارات حيث جالوا فيها للاستفادة من المكيّف، باعتبار أن الكهرباء مقطوعة في المنازل ودرجات الحرارة تجاوزت الثلاثين ومن المتوقع أن تلامس الأربعين "وزيادة".
وبرّر وزير الطاقة اللبناني انقطاع التيار الكهربائي، أمس الثلاثاء، رغم وعوده المتكررة بتحسن التغذية الكهربائية، بعطل تقني كبير، معلناً أن إصلاحه يحتاج الى وقتٍ.
وأعلنت مؤسسة كهرباء لبنان في بيان، اليوم، أنه "مساء الاثنين طرأ عطل على قاطع المجموعة الثالثة في معمل الجية الحراري، ما أدى إلى انفصال خطي جية – بصاليم رقم 1 و2 150 ك.ف، الأمر الذي أدى بدوره إلى انفصال المجموعتين البخاريتين في كل من معملي الزهراني ودير عمار عن الشبكة، ثم تلتهما سائر مجموعات الإنتاج بسبب عدم ثبات الشبكة نتيجة تراجع الإنتاج إلى حدوده الدنيا".
وقالت: "بناء عليه، انقطعت التغذية بالتيار الكهربائي في جميع المناطق اللبنانية بما فيها بيروت الإدارية، وتواصل الفرق الفنية جهودها لإعادة المجموعات تباعاً إلى الخدمة، وتالياً إعادة التغذية الكهربائية تدريجياً إلى مختلف المناطق".
وأشارت مؤسسة كهرباء لبنان إلى أن الطلب على الطاقة يتجاوز حالياً الـ3400 ميغاوات، يقابله تراجع في الطاقة الإنتاجية لأسباب خارجة عن إرادة المؤسسة تعود إلى النقص في المحروقات لزوم معامل الإنتاج، الأمر الذي يتسبب بعدم ثبات الشبكة الكهربائية، ما يرفع من احتمال تكرار عملية انفصال مجموعات الإنتاج.
ووصلت تداعيات أزمة الكهرباء إلى قطاع الاتصالات في ظلّ الضغط المستمرّ والمتزايد على المولدات الخاصة وعدم تزويد المحطات والسنترالات بالمازوت، ما أدى إلى حصول أضرار وأعطال أدت إلى توقف العمل لساعات، تماماً كما حصل مع شبكة هيئة "أوجيرو" التي تدير الخطوط الثابتة والإنترنت الثابت في البلاد.
ودعت مجموعات مدنية المواطنين إلى المشاركة في اعتصام، اليوم الأربعاء، أمام مؤسسة الكهرباء في بيروت استنكاراً لانقطاع التيار الكهربائي.
الأزمة الثانية، وهي متصلة في جوانب منها بالكهرباء والمولدات، وهي أزمة المحروقات، وهو قطاع آخر ينخره الفساد ويدخل في لعبة التجار فيما الضحية واحد وهو الشعب اللبناني، الذي عاد ليقف في طوابير أمام محطات المحروقات لتأمين البنزين أو المازوت في ظلّ استمرار السوق السوداء المحصّنة سياسياً بغطاء يحول دون توقيف المهرّبين والمحتكرين، فيما عمدت بعض المحطات إلى الإقفال، ومنها محطات "توتال" الفرنسية، التي توقفت عن العمل بشكل كامل في اليومين الماضيين على كافة الأراضي اللبنانية.
ويقول ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا، لـ"العربي الجديد"، إن الأمور تتجه إلى الحلّ بعد بدء البواخر بتفريغ حمولتها من البنزين، وتوزيع الصهاريج المادة على المناطق كافة. كذلك، جرى تأمين الاعتمادات الدولارية اللازمة للاستيراد، وهذه مشكلة أساسية نتمنى إيجاد مخرج نهائي لها كي لا تتكرر الأزمة.
وحول استمرار توافد الناس على المحطات لتزويد سياراتهم بالبنزين رغم حل المشكلة، قال أبو شقرا: "الناس فقدوا ثقتهم بالدولة ومن فيها".
ويمكن تلخيص أزمة المحروقات بعوامل عدم تأمين الاعتمادات بالعملة الخضراء للاستيراد من جانب مصرف لبنان، واحتكار السوق السوداء للمازوت والبنزين لجني أرباح طائلة في ظلّ استمرار التهريب عبر المعابر وخصوصاً غير الشرعية منها، وهي تحت نفوذ "حزب الله" اللبناني الذي يستغلها ويرفض إقفالها لتأمين عملياته المالية والعسكرية باتجاه النظام السوري، وقد سجلت عمليات تهريب كبيرة في الفترة الأخيرة للمازوت والدولار والقمح وغيرها في ظلّ تقاعس الدولة عن محاسبة المهربين وإقفال المعابر الأساسية، ما يؤشر إلى استمرار الأزمة وتفاقمها في الأيام المقبلة رغم الحلول التي ستبقى مؤقتة وظرفية.
ووصلت أزمة الكهرباء وندرة وجود المازوت في الأسواق إلى المياه مع إعلان المدير العام لمؤسسة بيروت وجبل لبنان جان جبران، اليوم، صعوبة الاستمرار في تأمين التغذية بالمياه بالوتيرة السابقة نفسها والتي حتماً ستتراجع، باعتبار أن سبعين في المائة من ضخ المياه في المؤسسة يعتمد على الكهرباء أو المولدات.
الأزمة لم تقتصر انعكاساتها هنا، بل أدت إلى إرجاء تحويل معاشات المتقاعدين لشهر أغسطس/آب المقبل بالرغم من جهوزيتها في مديرية المصارف، وسيتم تحويلها إلى المصارف في أول يوم عمل بعد عيد الأضحى، وذلك بسبب توقف النظام الإلكتروني لدى وزارة المال لأسباب تقنية ناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي، بحسب بيان، صدر اليوم، عن وزارة المالية.